فصل: باب: الجُعل والإجارَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الصداق:

الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال صلى الله عليه وسلم: «أدوا العلائق، قيل: وما العلائق يا رسول الله، قال: ما تراضى به الأهلون».
وانعقد الإجماع على أن ما يصح جعله صداقاً يثبت بالتسمية الصحيحة، ثم ورد في الشرع لما يسمى في عقد النكاح على معرض العوض أسماء: الصدقة، والمهر، والصداق، والأجر، قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]
ثم الذي يجب تصدير الكتاب به أنَّ الصداق لم يثبت على قياس الأعواض؛ فإنَّ حظها في الاستمتاع منه حظُّه في الاستمتاع منها، وهما مشتركان في الاستمتاع، ويصح أن يقال: حظها أوفى، لما صح من توفر شهوتها، وعدم تأثير الاستمتاع فيها، ولكن لما اقتضت الحكمة الشرعية استحقاق الرجال باستحقاق منفعتهن- كما تقدم ذلك مقرراً- اقتضى الترتيب بعد ذللك اختصاصهن باستحقاق ما يثبت في معرض العوض، وضعف مُنَّتهنَّ وعجزهن عن التكسب، وما طُلب منهن من التخدُّر، وعدم الانتشار، ولزوم الحِجال، يقتضي ذلك.
ثم الصداق الثابت لها ليس يثبت ركناً في النكاح/ ثبوت الثمن في البيع، والأُجرةِ 114 ي في الإجارة، ولكنه-وإن قوبل باستحقاق المنفعة عليها- لا يتمحض مقابلاً على حقيقة العِوضية، ولذلك لا يفسد النكاح بفساد الصداق على المذهب الصحيح، ولا يفسد أيضاً بترك ذكره وتعرية النكاح عنه، وإذا رَدَّت المرأة الصداق، لم يرتد النكاح كما يرتد المعوض برد العوض في المعاوضات، وقال مالك: فساد التسمية في الصداق يفسد النكاح، وقيل: هذا هو قول الشافعي في القديم، فإنْ صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا نعرف خلافاً أن ترك تسمية الصداق لا يفسد النكاح. وكذلك لا خلاف أن النكاح لا يرتد برد الصداق، والصداق لا يُنكر كونه عوضاً؛ فإنه يثبت على صيغة العوضية، وارتداده بالفسوخ الواردة على النكاح يُقيمه مقام الأعواض، وحبسُها نفسَها إلى توفر الصداق عليها يُلحق الصداق بالأعواض، فالوجه أن نقول: الصداق عوض في النكاح، ولكنه ليس ركناً؛ من جهة أن العوضية ليست مقصودة في النكاح، والمقصود الأظهر منه المستمتَع. ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فسمى الصدقات نحلة وعطية، ليُشعر بخروجه عن كونه مقصوداً.
ومن المحققين من أئمتنا من قال: ليس الصداق عوضاً حقيقياً، وارتدادُه لزوال النكاح في بعض الأحوال سبيله سبيل التبعية، فكما يثبت تبعاً غير مقصود، فكذلك يزول بزوال النكاح- على تفاصيلَ معروفة، فحصل مسلكان:
أحدهما: أنه عوض حقيقي، ولكنه ليس رُكناً في النكاح.
والثاني: أنه ليس بعوض على الحقيقة وإن أقيم مقامه، ولا يكاد يظهر لهذا التردد مزيد أثر.
8354- وإذا زوّج الوليّ وليّته إجباراً بدون مهر مثلها؛ فالمذهب الأصح: صحة النكاح، وثبوتُ مهر المثل؛ جرياناً على ما قدمناه من أن الخلل في الصداق لا يؤثّر في النكاح.
وذكر أئمتنا قولاً آخر، واختلفوا في كيفية نقله، فقال قائلون: القول الثاني- إن النكاح لا يصح- وإليه أشار القاضي- ووجهه- على بُعده-، أن النكاح بدون مهر المثل لا يكون معقوداً على حكم الغبطة، والعقود إذا لم تتصف بالغبطة مردودة من الولي المجبِر.
وقال قائلون: الأول في صحة النكاح، والقول الثاني في صحة الصداق، وإن كان قاصراً؛ فإن الأب لا يتهم في حق طفله.
ومن وجوه الرأي: إذا كان الخاطب كفؤاً مرغوباً فيه، احتمل وَكْسُه في المهر. وهذا يخرج على قول الشافعي في أنَّ الذي بيدهِ عقدة النكاح هو الولي، وقد يجوز على هذا القول عفوه عن المهر وإسقاطه.
وإذا جمعنا وجوه تزويج الأب، قلنا: إذا زوّجها من كفئها بمهر مثلها، فقد نظر لها ولا معترض عليه، ولو كان يطلبها كفء بأكثر من مهر مثلها، فزوّجها الأب من كفء اَخر بمهر مثلها، فلا معترض عليه.
ولو طلبها كفء مماثل، ورجل نبيه شريف القدر، فزوّجها من مماثلها، جاز، ولا معترض، وليس هذا كالتصرف في المال؛ فإنه إذا طُلبت سلعةٌ للطفل بأكثر من قيمة المثل، لم يسُغ بيعُها إلا بالأكثر، والسبب في ذلك أن عقود المواصلات تنطوي على أسرارٍ خفية، وأمور جِبِلِّيّة، فالوجه إحالتها على الأب الشفيق، وقد يرى المماثل أجدى عليها من الشريف الذي يسطو، أو يستطيل بشرفه، والنكاح دِقُّ.
النظر في مراشده يدِق، والأموال لا يُبغى منها إلاَّ المالية؛ وعن هذا ينشأ كلام العلماء في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها؛ فالأصح أنَّ النكاح لا يصح إجباراً، لما فيه من ظهور إلحاق العار بها.
وفي المسألة قول غريب، حكيناه أن النكاح يصح ويلزم. وفي تزويجها بدون مهر المثل من التردد ما ذكرناه، فهذه مجامع القول في عقود الأب.
8355- ثم إذا تمهّد ما قدمناه، فالصداق لا يتقدر شرعاً عند الشافعي، وكلُّ ما يجوز أن يكون ثمناً أو أجرة يجوز أن يكون صداقاً، والمعتبر في هذا أن يكون الصداق متمولاً.
وقد قدمت فيما يتموّل كلاما واضحاً، وظني أني كررته في مواضع.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، وابن شُبرمة، وطوائفُ من العلماء إلى تقدير الصداق بنصاب السرقة، ثم مذاهب هؤلاء مختلفة في نصاب السرقة، وقد نظر هؤلاء إلى تشبيه البضع المستباح باليد المقطوعة في السرقة.
والشافعي رأى المهر ليتميّز النكاح عن البدل في السفاح، وهذا المعنى يحصل بإثبات ما يجوز أن يكون عوضاً. ثم نص الشافعي في مواضعَ من كتبه على استحباب العشرة وترْكِ النقص عنها، وذلك للخروج من الخلاف.
ثم قال: السرف والمغالاة في المهر غير محبوب، والقصد هو المستحسن، ولو حصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجاته وبناته، فنِعْم المتبع.
وقالت عائشة: "ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه، ولا زوّج واحدة من بناته بأكثر من اثنتي عشر أوقية ونَشٍّ، أتدرون ما النَّش؟ إنما هو
نصف أوقية " والأوقية أربعون درهماً، فمجموع ما ذكَرَت من الأواقي والنش خمسمائة"، وقال عمر: "ألا لا تغالوا في مهور النساء؛ فإنه لو كان فيه مكرمة عند الله وعند الناس، لكان أحقكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت امرأة سفعاء الخدين وقالت: الله يعطينا، ويمنعنا عمر، فقال: أين ذلك، فقالت: قال الله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال: كلُ الناس أفقه من عمر رجل أخطأ وامرأة أصابت".
ويتعلق بمتنهن أمران:
أحدهما: أنَّ المغالاة ليست مكروهة، وإنما ينهى عنها نهيَ استحباب، وقد بان أن مراتب النهي ثلاثة: تحريم وكراهة واستحباب. ومما نذكره أنَّ النزول إلى المبلغ الذي ذكرناه في مهور نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تخاطب به المرأة المالكة لأمر نفسها، والسيد في تزويج أمته. فأما الأب إذا كان يزوّج ابنته الصغيرة، فليس له أن ينزل عن مهر مثلها، وإن نزل، ففيه الترتيب القديم.

.باب: الجُعل والإجارَة:

8356- مقصود هذا الباب مقصورٌ على الكلام في منافع يجوز إثباتها صداقاً، والقول الجامع فيها: إنَّ كل منفعة يجوز الاستئجار عليها، فيجوز فرضها على الجملة صداقاً.
ثم القول في المنافع التي يجوز الاستئجار عليها، مما أصلناه على هذا الكتاب من كتاب الإجارة وغيره، والقول فيه منتشر، وضبط النفي والإثبات فيه عَسِرٌ، ولم يزد الأصحاب عن نقل مسائل مُرسلة، وما اعتنوا في ذلك بضابط، ولم يتشوف إلى الاهتمام به إلاَّ القاضي، فإنه حوّم على أطرافه ولم يستوعب، والقدر الذي ذكره: أنَّ كل عمل معلوم يلحقُ العاملَ فيه كلفةٌ ويتطوع به الغيرُ عن الغير؛ فالاستئجار عليه جائز، وإذا صح الاستئجار، صح إثباته صداقاً.
8357- وليس ما ذكره شافياً للغليل، ونحن نرى أن نذكر مسائلَ مرسلةً، ثم ننبه فيها على الغرض المطلوب، وقد نذكر فنوناً وأقساماً.
فالعبادات البدنية المفتقرة إلى النية، إذا كانت النيابة لا تتطرق إليها، فلا يتصور الاستئجار عليها؛ فإنَّ مِنْ حُكْمِ الاستئجار وقوع فعل المستأجَر عن المستأجر، وامتناع النيابة ينافي هذا، والعبادة البدنية التي تجري النيابةُ فيها-وهي الحج لا غير- يجوز الاستئجار عليها؛ كما تفصَّل في كتاب الحج، وإذا قلنا: غسل الميت يفتقر إلى النية، فالاستئجار عليه جائز، وإن كان قربة بدنية، وذلك أنَّ النيابة جائزة فيه كما تجوز في الحج. فاعلموا ترشُدوا.
ووراء ذلك أمر سننبّه عليه في أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في العبادات البدنية المفتقرة إلى النيات.
ومما نذكره في الأقسام التي نحاولها: أنَّ الأعمال التي لا تقع قربة، ولكنها تتعلق بأمور في المعايش، ومطرد العادات، فما لا يجوز منه فلا يجوز الاستئجار عليه، وما يجوز ولا ينهى عنه، فيجوز الاستئجار عليه، بحسب أن يكون معلوماً على ما يليق به، ويشترط أن يكون له وقع في النفع والدفع، حتى لو قل قدرُه، وكان لا يقع مثله في إثارة نفعٍ أو دفعٍ موقعاً؛ فلا يجوز الاستئجار عليه. وهو في جنسه بمثابة الحبة من الحنطة في الأعيان.
ومما نشترطه أن يكون النفع من العمل راجعاً إلى المستأجِر، فلو كان يرجع النفع إلى الأجير، فالإجارة فاسدة، وذلك مثل أن يقول: استأجرت دابتك لتركبها أنت ولا تترجل، فهذا فاسد، فإذا كان العمل مباحاً معلوماً متقوماً عرفاً، وكان نفعه يرجع إلى المستأجِر فيصح الاستئجار، ومن جملة ذلك: الحمل والنقل وأعمال المحترفين، وما في معناها، وهذا بيان ما لا يقع قربة.
8358- وأما ما يقع قربةً وإن لم نشترط فيه النية، فمنها ما يقع فرضاً على الكفاية، ومنها ما يكون شعاراً في الدين، ولا يقع فرضاً، فأما ما يقع فرضاً، فإنه ينقسم في نفسه، فمنه ما يخاطَب به المرءُ في ذاته إن اقتدر عليه، وإن عجز عنه، وجب على الغير كفايته، ومنه ما لا يخاطب به المرء على الخصوص في نفسه لغرضٍ يخصه.
فأمَّا القسم الأول، فمنه حفر القبور، ودفن الموتى، وحمل الجنائز، فهذه الأشياء مما يجوز الاستئجار عليها، والسبب فيه أنَّ من مات فتجهيزه من المؤن الواجبة المختصة بتركته، وهو مما يثبت في وضع الشرع على نعت الخصوص، فإن عجز من خصّه الشرع ابتداءً، فعلى الناس كفايته. وحَمْلُ الجنازة وما في معناه مما ذكرناه ينزل منزلة شراء الكفن، والتكفينُ من فرض الكفايات، وكذلك يجب على الإنسان أن ينفق على نفسه إن وَجَد، فإن فَقَد، لم يجز تضييعه، ثم لو اشترى في حالة الضرورة طعاماً، صح ذلك منه تنزيلاً لهذا على كون ذلك خاصاً به في وضع الشرع، فهذا مسلك في فرائض الكفايات. ويلتحق بذلك تعليم القرآن؛ فإنَّ على الإنسان أن يتعلم من القرآن ما لا يخفى، فهذا مما يختص وجوبه، فلا جرم جاز الاستئجار عليه، وإن كان إشاعة القرآن ونشره وتعليمه فرضاً على الكفاية.
والقسم الثاني- ما يثبت في الأصل شائعاً، ولا يختص افتراضه بشخص، حتى يعد من مؤنه وواجباته الخاصة، ولكن يثبت إقامةً لشعار، أو ذباً عن البيضة، وذلك مثل الجهاد، فإنه أُثبت عاماً، والمقصود به حماية الحوزة وحفظ البيضة. فهذا القسم لا يجوز الاستئجار فيه إذا كان المستأجَر مندرجاً تحت الخطاب العام بالذب.
ويخرج مما ذكرناه أهل الذمة؛ فإنَّا لا نخاطبهم بالذب عن الملة، فلا جَرَم جوز الشافعي للإمام أن يستأجر طائفةً من أهل الذمة على قتال جماعة من الكفار، كما سيأتي شرح ذلك في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
وسبب منع الاستئجار أنَّ الخطاب إذا كان متعلقاً بالمسلمين على العموم، فيكون الأجير فيه قائماً بإقامة ما خُوطب به، ويستحيل أن يقع فعله عن غيره. فهذا ما يقع فرضاً.
8359- وأمَّا ما يقع شعاراً غيرَ مفروض، فهو كالأذان في الرأي الأصح، فهل يجوز الاستئجار عليه؟
حاصل ما ذكره الأصحاب في الطرق ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يجوز الاستئجار على الأذان أصلاً؛ فإنه وإن كان لا يجب، فهو راجعٌ إلى تعميم الشعار، ولذلك لا يؤذن كل واحد ممن حضر الجماعة.
والوجه الثاني- وهو الأصح، أنَّ الاستئجار على الأذان جائز من الإمام ومن آحاد المسلمين؛ فإنه ليس عبادة مفتقرة إلى النية، ولا فرضاً يلابسه المكلف، وإن كان يرجع نفعه إلى المسلمين، فنفع القرآن كذلك يرجع إلى المسلمين.
والوجه الثالث: أن الإمام ومن يتولى الأمر من جهته يجوز أن يستأجر المؤذن، وليس يسوغ ذلك لآحاد الناس، وكثيرٌ من العقود يختص جوازه بالوالي إذا كان متعلقاً بالمصالح العامة.
ثم إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فقد ذكر شيخي وغيره خلافاً في أنَّ المؤذن على ماذا يأخذ الأجرة؟ وحاصل المذكور ثلائة أوجه: أحدها: أنه يستحق الأجرة على رعاية المواقيت.
والثاني: أنه يستحقها على رفع الصوت.
والثالث: أنه يستحقها على الحيعلتين، فإنهما ليسا من الأذكار، وسبب هذا الاختلاف أنَّ الأذان أذكار لله تعالى يردّدها المؤذن، فبعُد عند الأصحاب استحقاق الأجرة على أعيانها.
والصحيح عند المحققين أنَّا إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فالأُجرة مستحقة على جميع الأذان بما فيه، ولا بُعدَ في استحقاق الأُجرة على ذكر الله تعالى، كما لا بُعد في استحقاقها على تعليم القرآن، وإن كان التعليم من ضرورته قراءة القرآن.
8360- ومما نذكره: الاستئجار على تعليم العلم، وقد ذكر شيخي وغيره مَنع الاستئجار على التدريس، وردد الشيخ أبو بكر الطوسي فيما نقله عنه أبو بكر المفيد جوابه في جواز الاستئجار على إعادة الدروس.
وهذا كلام ملتبس، والتحقيق فيه أنَّ من استأجر شخصاً ليعلمه مسألةً، أو مسائلَ من العلوم، فهو جائز، لا يجوز أن يكون فيه خلاف، وهو بمثابة الاستئجار على تعليم القرآن، وإن ظن أن ذلك يمتنع من قِبَل تفاوت الناس في الفهم والدرك، فهم متفاوتون في الحفظ أيضاً قطعاً، ثم لم يمنع الاستئجار في المحفوظات، والحفظُ في معنى الفهم.
والذي ذكره الأصحاب من مَنْع الاستئجار على التدريس محمولٌ على ما إذا استأجر رجلٌ مدرساً حتى يتصدى للتدريس إقامةً لعلم الشريعة من غير أن يعيِّن له من يعلمه، فهذا إن امتنع، فسببه أنه تصدى للأمر العام المفروض على الكفاية، فكان بمثابة الجهاد.
ولو فرضنا استئجار مقرىء على هذه الصورة، لكان ممتنعاً، كما يمتنع استئجار المدرس.
ولكن جرى كلام الأصحاب في الدرس، ومن يعلّم القرآن على العادة الغالبة في كل نوع؛ فإنهم لم يصادفوا مستأجَراً على تعليم العلم في العادة، والاستئجار على تعليم القرآن غالب.
وفي النفس من الاستئجار على التدريس والتصدي له شيء؛ من جهة أنه قد يشابه الأذان؛ فإنَّ الغرض من كل واحد منهما نفعٌ راجع إلى الناس عموماً من غير تخصيص أشخاص، وليس في امتياز الأذان عن التدريس-بالفرضية في أحدهما- فقه؛ فإنَّ المعتمد في منع الاستئجار على الجهاد أنه نزل على أهل الاستمكان نزولاً عاماً، ولا متعلق له إلاَّ الذب عن حريم الإسلام، والتدريس و إن كان يعم من وجه، فهو في جهة التعلّق بمن يتعلم خاص؛ إذ على كل شخص أن يتعلم في نفسه، كما على كل شخص أن يعتني بحفظ المواقيت في الصلوات، والمؤذن يكفي الناس ذلك، فليفهم الناظر ما يمر به من لطائف الفقه.
ولكن إن صار صائر إلى تجويز الاستئجار على التدريس، فلابد فيه من إعلام على التحقيق، فإن الأذان بيّن في نفسه، والعلم عند الله تعالى.
8361- ومما نذكره أنَّ القضاة إذا تراصدوا للقضاء، فلا معنى لاستئجارهم؛ فإنهم إذا انتصبوا للفصل بين المتحاكمين، تعلَّق أمر الخلق عموماً بهم، ولا يتصور أيضاً أن تنضبط أعمالهم بوجه من الوجوه. فهذا مجموع ما أردنا إيراده.
ثم جُوِّز استئجار القاضي على كتبة السجلّ وغيره مما يستدعيه الخصم، ولا يوجبه الشرع، مما يأتي موضحاً-إن شاء الله عز وجل- في كتاب أدب القضاء.
ومن تأمَّل ما ذكرناه، لم يخْف عليه ضوابط المذهب فيما يجوز الاستئجار عليه، وفيما يمتنع ذلك فيه.
8362- ومما ذكره الأصحاب: الكلام على الاستئجار في الإمامة في الصلاة، فقالوا: لا يجوز ذلك في الصلوات المفروضة، وهل يجوز في النوافل كالاستئجار على الإمامة في صلاة التراويح؟ فعلى وجهين.
وهذا كلام ركيك؛ فإنَّ الإمامة لا معنى لها، ولا مزيّة على الإمام في قصد الإمامة، وإنما يكفيه أن يصلي ويقتدي به من يريد، وإن لم ينوِ الإمامة، فصحة القدوة على نيَّته. نعم، قد يتوقف على نية الإمامة إحراز فضيلة الجماعة، وهذا يخصه ولا يتعداه. وقد ذكرنا أنه لا يجوز الاستئجار على عمل لا يتعدى نفعُهُ العاملَ.
8363- فإذا تمهد ما ذكرناه، فقد ذكر الشافعي في الباب أنَّ الزوج لو أصدق زوجته عملاً يعمله مما يجوز الاستئجار على مثله، فالصداق صحيح. ومنع أبو ْحنيفه ذلك عموماً في جميع الأعمال التي يعملها الزوج. وكذلك منع أن يصدقها منفعة حر في جهة من الجهات، وإن جاز الاستئجار، وإن جوّز أن يصدقها منفعة عبد- في خبطٍ له طويل.
ثم ذكر الشافعي في الباب ثلاثة فصول بعد ذلك: أحدها: في تعليم القرآن، والثاني: في رد العبد الآبق، والثالث: في خياطة الثوب. فنذكر ما يتعلق بالاستئجار على تعليم القرآن.
8364- ثم قد تمهد من قبلُ أنَّ ما يجوز الاستئجار عليه يجوز جعله صداقاً، فإذا أراد استئجار شخص ليعلّمه، أو يعلّم من يعينه، القرآنَ؛ فهو جائز، فأول مرعيّ فيه الإعلام، ثم إنه يحصل بوجهين:
أحدهما: ذكر المقدار الذي يطلب تعليمه، والثاني: المدة، فلو قال: تعلِّمني سورة البقرة، ولم يذكر المدة، جاز، ووقع الاكتفاء بإعلام المقدار، ولو ذكر المدة، فقال: تشتغل بتعليمي شهراً، جاز. ثم إن ذكر المدة، كفى، وإن ذكر المقدار، كفى، ولو جمع. بينهما، فقال: تعلّمني سورة البقرة في شهر، ففيه وجهان مشهوران، ذكرهما في مواضع من كتاب الإجارة وغيرها، فمن قال بالجواز، قال: زيادة الإعلام غير ضائرة. ومن منع-وإليه ميل معظم المحققين- قال: المدة قد لا تفي وقد يفضل منها، وذكرها مع المقدار يزيد جهالة ويجر عسراً.
وكذلك لو استأجر من يَخيطُ ثوباً عيّنه في يوم، فالأمر على الخلاف الذي حكيناه.
ثم ذكر العراقيون خلافاً في أنه هل يجب تعيين القراءة التي يبغي التعليم بها، مثل قراءة أبي عمرو أو غيرِه؟ فذكروا في ذلك وجهين.
والوجه عندنا: القطع بأنَّ ذلك لا يعتبر ولا ينتهي التضييق إلى هذا الحد.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قصة الواهبة لذلك الأعرابي: "زوجتكها بما معك من القرآن". ولم يقع للحرف والقراءة تعرُّضٌ.
8365- ومما يتعلق بذلك أنَّ الإجارة إذا أوردت على عين شخص، فوقع الشرط على أن يكون هو المعلّم، فلا يقيم غيرَه مقامه، كما إذا استأجر الرجل داراً معينة ليسكنها، فليس للمكري إقامةُ غير تلك الدار مقامها.
ثم لو كان المعيَّن يحسن ما وقعت الإجارة عليه، صح الاستئجار. وإن كان لا يحسن، ولكن كان يتأتى منه أن يتعلم ويعلِّم؛ فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أن الإجازة صحيحة؛ فإنَّ تحصيل الغرض ممكن، والتعليم لا يقع دفعة واحدة في وقت واحد، فصار كما لو اشترى شيئاً بألف، وهو لا يملك درهماً، فالشراء صحيح، وإن لم يكن في الحال في ملكه شيء من الثمن.
والوجه الثاني- أنَّ الإجارة فاسدة؛ فإنها تضمنت استحقاق شيء، وهو في وقت الاستحقاق غير ممكن، وليس التعذر فيه إلى التسليم؛ بل سبب الفساد أنَّ المنفعة في المسألة معدومة الجنس. وهذا الاختلاف يشير عندنا إلى سرٍّ في الإجارة، وهو أنَّ الإجارة إذا أُوردت على عينٍ ومنافعها، فكأن منافعها مع تعلقها بالعين، فيها معنى الالتزام، وكأنَّ المستأجر التزم تحصيلها من العين المعيّنة، فلا يمنع في الملتزَم أن يقع الاعتماد على إمكان التحصيل. ومن أبى ذلك يعتمد التعيينَ ومنافاته لحكم الذمة، والوجهان فيه إذا كان يُحسن مقداراً يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تَسَعُ التعلّم والتعليم، فأما إذا لم تكن مدة، وكان لا يحسن شيئاً ألبتةَ، والإجارة تقتضي استحقاق الاشتغال بالتعليم، وتسليم المستحق على الفور؛ فلا وجه إلاَّ القطع بإفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحَق في الحال.
8366- وكل ما ذكرناه في الإجارة يجري حرفاً حرفاً في الصداق، ونحن نرد باقي الصور إلى الصداق فنقول: لو أصدق امرأته تعليم مقدار يقع التوافق عليه، فقالت: علِّم فلاناً أو فلانة ما التزمت تعليمي إياه، ففي المسألة وجهان مشهوران ذكرهما العراقيون وغيرهم، وأثبت أئمة العراق للمذهب حداً وضبطاً وقالوا: الإجارة الواردة على العين تتعلق بمن يستوفي المنفعة، وبما تستوفى المنفعة منه، وبما تستوفى المنفعة به. فأما المستوفي للمنفعة، فيجوز أن يتبدل مع رعاية النصفة، وبيانه: من استأجر دابةً ليركبها، فله أن يُرْكِبها غيرَه، إذا كان في مثل جثته وثقله. فهذا مثال تبدل المستوفي.
وأما ما تستوفى المنفعة منه، فهو العين التي وردت الإجارة على استحقاق منفعتها، فلا سبيل إلى تعديلها، وهذا مثل تعيين دابة للركوب، لا يجد المكتري سبيلاً إلى إبدالها، بحكم الإجارة المنعقدة، ولو أتلفت الدابة المعينة، انفسخت الإجارة، وتعليل ذلك بيِّن؛ فإنَ المنافع متعينة بتعيّن مورد العقد، فإبدالها كإبدال المبيع المعيّن، وتلفها قبل استيفاء المنفعة كتلف المبيع قبل القبض، وما ذكروه في تبدل المستوفي جارٍ على القياس؛ فإنه استحق المنفعة وملكها، والشرع سلَّطَهُ على إحلال غيره محل نفسه بالإعارة والإجارة، ومن ضرورة ذلك تبدل المالك والمستوفي.
ثم قالوا: ما يقع به الاستيفاء بمثابة الثوب يعيَّن للخياطة، فيقول مالكه: استأجرتك لتخيط هذا الثوب، فاستيفاء المنفعة يقع بذلك الثوب. فلو أراد مالك الثوب أن يأتي بثوب مثلِه؛ فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنَّ له ذلك.
وتبديل الثوب كتبديل المستوفي؛ فإنَّ المستحَق خياطةٌ للأجير، ولا يختلف الغرض بتعدد الثياب مع تماثلها.
والوجه الثاني- أنَّ ذلك الثوب يتعيَّن؛ فإن العقد كما عيّن العاملَ- حتى لا يجوز له أن يقيم غيرَه مقام نفسه، وإن كان عملُ غيره بمثابة عمله أو أفضل من عمله، فكذلك اقتضت الإجارة إيقاع عملٍ في عين، فيجب تعيّنها حتى لا يقع إبدالها.
وهذا القائل يعسر عليه الفصل بين تبدل المستوفي-الممثَّل براكب الدابة- وبين تبدل الثوب: والممكن فيه أن منفعة الدابة لا تقع بالراكب، وإنما هو انتفاع من غير تأثر به، والثوب يتأثر بالخياطة ويقع فيه وتبقى ما يبقى، حتى اختلف قول الشافعي في أنها إجارة أو عين؟ كما ذكرنا القولين في كتاب التفليس.
وهذا المعنى يجري في المتعلم المستأجِر؛ فإنه يتأثر بالتعلم، وإن كان من وجه مستوفياً للمنفعة، فقد ساوى مكتري الدابة؛ من حيث إنه يستوفي المنفعة المستحقة، وهو في التحقيق كالثوب الذي تقع الخياطة به، من جهة تأثره بالتعلم.
ثم حاصل ذلك يرجع إلى تعلق الأثر بهذه العين، والأعيان لا يدخلها الإبدال في العقود الواردة على الأعيان، فهذا مبلغ الإمكان في التوجيه، والأصحُّ الأول.
8367- ثم اختلف مسلك أئمتنا في تنزيل الوجهين، فذهب العراقيون وطوائف من المراوزة إلى أنَّا لو منعنا الإبدال، نمنعه مع التراضي أيضاً، إلاَّ أن يُفرض عقد صحيح في الاعتياض من منفعة بمنفعة، وهذا كما لو استأجر رجل داراً وقبضها، ثم استأجر المستأجر بمنفعة تلك الدار دابةً، فلا يمتنع هذا. وهؤلاء يقولون: لو تلف الثوب المعيّن، انفسخت الإجارة، كما تنفسخ بتلف الدابة المعينة، وصار صائرون إلى أن الثوب لو أبدل بمثله باتفاقٍ منهما وتراضٍ، جاز بلا خلاف.
وإنما الوجهان فيه إذا أراد مالك الثوب أن يُبدِل، فأبى الخيّاط، وهذه طريقة القاضي.
وبالجملة: التفريع على منع الإبدال ضعيف في الطريقين.
وكل ما ذكرناه، فيه إذا ورد الإصداق والإجارة على عين المعلّم.
فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، مثل أن يُصدقها الزوج تعليم سورة البقرة، ولا يتعرض لتعليم نفسه، فلا شك أنه لا يتعين عليه التعليم بنفسه، وله أن يقيم غيره في ذلك مقام نفسه. وهذا بيِّن في أحكام الإجارات.
ولا يمتنع-والحالة هذه- أن يكون المتلزم جاهلاً بما التزم التعليم فيه، لأنه إذا كان لا يتعين للتعليم، فلا معنى لاشتراط علمه.
8368- ومما يدور في الخلد أنَّا هل نشترط تعيين السورة والجزء الذي يقع التوافق على التعليم فيه؟ هذا فيه تردُّدٌ: ظاهر كلام المشايخ: أنه لابد من التعيين فيه؛ فإنَّ السور مختلفة، فمنها متشابهات، ومنها ما يصعب حفظها، والأمر في ذلك على تفاوت بيِّن.
وكنت أود في هذا المنتهى ألاَّ يصح الإصداق للاستئجار على التعليم قبل أن يَخْبُر حفظ المتعلم، كما لا يصح إجارة الدابة للركوب قبل أن يُعايَن الراكب.
ولأن تفاوت الحفظ والتوقف، يدنو من تفاوت الجثث أو يزيد عليها.
وظاهر كلام الأصحاب: أن هذا لا يشترط، وقد يتجه في عدم اشتراط هذا، التعلقُ بحديث الأعرابي والواهبة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يخبُرَ حفظَها، لمّا قال: "زوّجتكها بما معك من القرآن".
وقد ينقدح أن يقال: فيما قد كان أصدقها تعليم خَمس أو عَشر من أول سورة البقرة، هكذا الحديث، ولعل الأمر كان يقرب في هذا المقدار ولا يتفاوت تفاوتاً محسوساً.
وليس يبعد أن يقال: يجوز اكتراء دابة تركب من الدار إلى السوق، من غير نظر إلى جثة الراكب، فإن التفاوت لا يحس في هذا المقدار، سيما إذا كانت الدابة قويّة.
فرع:
8369- إذا أسلمت امرأة، فتزوجها رجل، وتعين عليها تعلم الفاتحة، ولا معلم بالحضرة غير الزوج؛ فالمذهبُ الأصحُ أنه لو أصدقها تعلُّم الفاتحة، صح. وجبُن بعض أصحابنا، فمنع هذا في هذه الصورة، ومنع الاستئجار في مثلها أيضاً، وصار إلى أنَّ تعليم الفاتحة متعيَّن على الرجل، حقاً لله تعالى، فلا يجوز أن يأخذ على مقابلةِ تأدية المستحَق عليه عوضاً.
وهذا ليس بشيء، فإنَّ الأصل وجوب التعلم عليها، فإن تُصُوِّرت صورة تعين فيها تحصيل الغرض من شخص، فالقاعدة هي المرعيّة. وهذا بمثابة ما لو اضطر الرجل إلى تناول طعام غيره، فليس لمالك الطعام أن يمنعه مع استغنائه عنه، ثم تعيين بذل الطعام لا يمنعه بيعه منه. والعبارة الفقهية في هذا: أنَّا لا نطلق القول بتعيين بذل الطعام، بل نقول: يتعين على مالك الطعام بيع الطعام من المضطر، وكذلك يتعين على الرجل تعليمها بالعوض.
وقد يمتنع المضطر عن الابتياع، فيتعين إذ ذاك على مالك الطعام إنجاده بالعوض على الرأي الأصح.
وفيه وجه آخر، أنَّ العوض لا يلزم. وسنأتي بغوائل هذا في كتاب الأطعمة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
8370- المسلم إذا تزوج كافرةً على أن يعلِّمها شيئاً من القرآن، فقد قال الأئمة: إذا كان يرتجي بذلك أن تسلم إذا تعلمت، فيجوز الإصداق، وعليه يدل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] والاستماع والتعليم بمثابةٍ. ثم لا قطع بالقبول، فإنه تعالى قال: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]
وإن كان لا يرتجي لها الإسلام بتعليم القرآن، فقد قال الأصحاب: لا يجوز أن تُعلَّم والحالة هذه.
وكذلك إذا أراد الرجل أن يعلِّم جاريته الكافرة القرآن، وكان لا يأمل أن تسلم، وإنما يبغي أن يثبت لها صفةً تزداد قيمتُها بسببها، فلا يجوز ذلك؛ فإنها قد تستخفّ بما تتلقف، ونزَّل الأئمة هذا منزلة بيع المصحف من الكافر.
وهذا فيه نظر؛ فإنه يلزم منه منع الكفار من التحويم على حِلَق القرآن؛ فإنهم قد يتلقنون من تدارس القرّاء الآية والآيتين، ولم ينته الأئمة إلى هذا، ولابد منه إذا طردنا قياسهم.
فرع:
8371- إذا أصدق المرأة تعليمَ القرآن، ثم علّمها الآية والآيات، فنسيت، فهل عليه إعادة ما نسيت تعلمها؟ أم يخرج عن عهدة ذلك القدر، ويعلّمها البقية؟ وما التفصيل في ذلك؟ وكيف الضبط؟ وأين الموقف؟
قال العراقيون: اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: الحدُّ الذي إليه الموقف الآية، فإذا حفّظها آية، فقد خرج عن العهدة، فإن نسيت بعد ذلك، فليس عليه إعادة تلك الآية عليها، وأن يعلِّمها البقية، وإن علّمها دون آيةٍ، فنسيت، فيعيد عليها، إلى استكمال آية.
قالوا: ومن أصحابنا من قال: الحد المعتبر سورةٌ، على حسبا ما ذكرناه في الآية.
والوجهان عندي مدخولان: أمَّا السورة، فلا وجه للتقدير بها مع تفاوت السور، وقد يُصْدِقُها بعضَ السورة، وأمَّا التقدير بالآية، فلا وجه له أيضاً، ومن الآي قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] وآية المداينة، فالوجه إذاً تحكيم العادة في هذا: والمتلقن المتلقف يحفظ الكلمات كما يسمعها، ثم ينتشر عليه الحفظ، فيعيد عليه الملقن، وقد يجري ذلك مراراً، فلا يكون ما جرى أولاً من إعادة الملقن لتلك الكلمات متقناً. فهذا بيّنٌ وفيه عُرفٌ يعرفه أهله.
وإذا تم التلقن، فيبقى وراء ذلك نظر، وهو أنَّ المتلقن مؤاخذ في العرف بأن يكرر ما تلقنه في نفسه، فإذا لم يفعل، عُدَّ ذلك تقصيراً منه، فليقع البناء على هذا الذي ذكرناه. ولا يقع التقدير بالمبالغ.
ولو قال قائل: التلقين يقع في مقدار يحويه مجلس، فإذا فرض القيام عنه، والعود إلى مجلس آخر، ثم ينسى المتلقن ما تقدم، فهذا يحمل على تقصيره، وقد يحتمل منه عثرات فيه.
والحكم المرجوع إليه العرف فيه، وينشأ منه أنَّ المتلقن إذا كان يلهو أو يسهو ولا يُكِبّ، لم يُحتمل هذا، وفي كل واحد من التلقين والتلقن عُرفٌ متبع بين طرفي الإغفال، ونهاية الإقبال.
فرع:
8372- إذا أصدق امرأته تعليم الفُحش من الأشعار، والخَنا في الحكايات، فهذا الإصداق فاسد، ولو أصدقها تعليم ما يجوز تعليمه جاز.
وإذا أصدق الذمي الذمية تعليم التوراة والإنجيل، فهذا عندنا كما إذا أصدقها الخمر والخنزير، فإنَّ تعليم التوراة وتعلّمَها غير سائغ، وإنْ ترجمت التوراة بلسان نعرفها، ولم يكن فيها ما ننكره، فهو كسائر أنواع الكلام.
وقد نجز القول في تعليمِ القرآن وأَصْدِقَتِه وما يتعلق به.
8373- فأما القول في ردِّ الآبق؛ فإن كان مكانُه مجهولاً، فالاستئجار على رده باطل، وتصح معاملة الجِعالة في رد الإباق، والسبب في ذلك مسيس الحاجة، ثم احتملت الجهالةُ في الجِعالة جوازَها، وعورضت الجهالة بالتمكن من الفسخ متى شاء.
وإذا أثبت ردّ الآبق صداقاً، فيجب أن يكون موضع العبد معلوماً، بحيث يجوز الاستئجار على رده؛ فإن رد الآبق-لو أُثبت على الجهالة صداقاً-، لثبت لازماً؛ فإنَّ الصداق لا يثبت جائزاً، ولو ثبت على اللزوم بعُد عن قبول الجهالة، لما نبهنا عليه من أنَّ سبب احتمال الجهالة في الجعالة ما ثبتت المعاملة عليه من الجواز، فهذا هو الغرض من جعل رد الآبق صداقاً.
8374-فأما جعل خياطة الثوب صداقاً فبيّن، والوجه إثباتها بحيث يجوز الاستئجار عليها، كما تمهد.
8375- ثم إنا نذكر بعد هذه الفصول الثلاثة في تعليم القرآن، ورد الآبق، وخياطة الثوب، نوعين من الكلام:
أحدهما: في توفية هذه المسميات على الكمال، مع فرض الطلاق قبل المسيس.
والثاني: في طريان الطلاق قبل توفية هذه الحقوق، ويَعترض في أثناء الكلام تأكدُ المهر وتقرره بالمسيس قبل توفية المسميات. وإن أحببنا أفردناه بالذكر.
فأمَّا إذا أوفر ما سمّى، فعلّم ما كان شَرَطَ، أو ردّ الآبق، أو خاط الثوب، ثم طلقها قبل المسيس، فسيأتي-إن شاء الله تعالى- في مسائل الصداق أنَّ الطلاق قبل المسيس مشطّرٌ.
فإن كانت العين المصْدَقةُ باقيةً، ارتد شَطْرها إلى الزوج، فإن كانت فائتةً نُظر، فإن كانت من ذوات الأمثال غرِمت للزوج مثلَ نصف ما قبضت، وإن كانت من ذوات القيم، غرِمت له نصف القيمة، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: ليس التعليم، ولا الرد، ولا الخياطة مما يمكن فرض رجوع نصفه إلى الزوج، فنَجعلُ هذه المسميات كالعين المقبوضة الفائتة، وهي من ذوات القيم، وقِيَمُ المنافع أجرتُها، فيغرم الزوج-إذا طلق قبل المسيس في جميع هذه المسائل- نصف الأجرة. وقد انفصل الغرض.
وأما إذا طلقها قبل المسيس، وما كان وفَّى شيئاً مما سمّى في الفصول الثلاثة؛ فنقول أولاً: رد العبيد لا يتبعض؛ فإنَّ ردَّه إلى بعض الطريق ضائع.
وقال الأئمة: الخياطة لا يتبعض أيضاً، وألحقوا به التعليم، وقطعوا في الطرق بأنه لا يتبعض، وفائدة امتناع التبعض في هذه الأشياء أنَّا لا نُلزم الزوج توفيةَ الجميع على أن تغرم له نصفَ القيمة. هذا لا سبيل إليه، وقد اعتقدنا امتناع التبعيض.
فينتظم من ذلك كلِّه الحكمُ بتعذر توفية الصداق، فصار كما لو أصدق امرأته عبداً، وتلف في يده، ثم طلقها قبل المسيس، ولو جرى ذلك، لكان فيما يلزمه في مقابلة نصف الصداق لزوجته قولان:
أحدهما: أنه يلزمه نصف القيمة، والثاني: أنه يلزمه نصف مهر المثل، وحقيقة هذين القولين سرُّ كتاب الصداق ومرجوعُ المسائل. وسنصدّر الباب المعقود إثر هذا ببيان ذلك، إن شاء الله تعالى.
8376- والذي يبقى من المباحثة في الفصل، تقدير التعذر في التبعيض، فنقول:
إذا كان أصدقها تعليم سورة، فالوصول إلى درك نصفها عسر، وإن تكلف متكلف عدَّ الحرفِ وتنزيلَ الشَّطر عليه، فماذا يصنع بنظم الكلام، وهو على تفاوت بيِّن؟ وفيه من اليسر والعُسر في التلقين والتلقن؛ فيتعذر ضبطُ هذا ودركُ نصفه.
وكذلك القول في خياطة بعض الثوب، وردِّ العبد إلى بعض الطريق.
فلو فَرَض فارضٌ خياطة لا تعاريج فيها، في دروزٍ مستقيمة ويقع الاكتفاء بشَطْرها، بأن يشبكها كضِفّتي ملاءة تؤلفان، فالتنصيف في هذا مُدرَك.
وقد ينتفع صاحب العبد برده إلى نصف الطريق، وتسليمه إلى موثوق به من أصحابها.
وإذا فرض الفارض ذلك، أو تعليمَ سورة سهلة المأخذ من المفصّل، كسورة الرحمن وغيرها مما يتخيره الإنسان بعد وضوح الغرض، فقد يقرب دَرْكُ التنصيف.
وإذا أُضيف ما ذكرناه إلى تفاوت الناس في جودة الحفظ والبلادة، كان هذا أقربَ محتملاً وأسهلَ مُدركاً مما ذكرناه.
ولم يتعرض الأصحاب لذلك كما تقدم، وأطلقوا القول بأنَّ هذه الأشياء لا تقبل التنصيف، والوجه عندنا حمل كلام الأصحاب على الغالب؛ فإنَّ الخياطة يغلب فرضها في القمصان والجباب والأقبية، وما في معانيها، والتعليم يفرض في حزب من القرآن، فإن تكلف متكلف الفرض في الصور التي ذكرناها، لم يخف المصير إلى إمكان التشطير.
ثم القول في الرد بالخياطة-إن اعتقدنا إمكان التشطير- بيّن.
8377- والقول في تعليم النصف مما سَمَّى صداقاً يتعلق بأصلٍ آخر، وهو أنَّ النكاح إذا تقيد بالمسيس وتقرر المسمى به، وما كان علَّمها شيئا، فإذا حَرُمَتْ عليه، وكان لا يتأتى التعليم إلا مع التعرض للفتنة؛ فهذا صداقٌ تعذر تسليمه، وإن أمكن التعليم من وراء حجاب من غير تعرض للفتنة، فالتسليم ممكن، فيقع القول في الشطر على هذا النحو.
وتمام البيان أنه إذا تعذَّر تعليمها، فجاءت بغلام، وأحلَّته محل نفسها، ورضيت بأن يعلمه، فهذا يتصل بما قدمناه من أنَّ ما به استيفاء المنفعة هل يُبْدَل؟ وقد مضى موضحاً مُفَصَّلاً.
باب
صداق ما يزيد وينقص
قال الشافعي: "وكلّ ما أصدقها، فملكته بالعقد، وضمنته بالدفع؛ فلها زيادته وعليها نقصانه... إلى آخره".
8378- مذهب الشافعي ومعظم العلماء أنَّ النكاح إذا انعقد مشتملاً على مسمًى صحيح، فإنه يتضمن إثبات ملك جميع الصداق لها، ولا يتوقف ملكُها الصداقَ على المسيس، كما لا يتوقف ملكُ الزوج كلَّ البضع.
ثم لو فرض الطلاق قبل الدخول، تشطَّر من وقت الطلاق الصداقُ، من غير إسناد ولا تبيُّن، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
وقال مالك: لا تملك المرأة بالنكاح إلاَّ نصف المهر، وتملك النصف الثاني بالدخول.
فإذا تمهد ما ذكرناه، وقد أصدق الزوج امرأته عيناً من الأعيان، ولم يُسلِّمها إليها، فالصداق مضمون على الزوج قبل التسليم.
8379- وفي كيفية الضمان قولان منصوصان في مسائل (السواد):
أحدهما: أنَّ الزوج يضمنه ضمان العقد؛ لأنه عوض في معاوضة، وكان مضموناً ضمان الأعواض، كالثمن في البيع.
والقول الثاني- أنَّ الزوج يضمنه ضمان اليد كالمستام والمستعير ونحوهما.
توجيه القولين: من قال: إنه يَضمن الصداق ضمانَ الأعواض، احتج بأنَّ الصداق عِوضٌ، كما تقرر في صدر الكتاب، ولم يُثبت مقتضى الضمان سوى العقدِ؛ فيجب إثباتُ ضمان العقود.
ومن قال: إنه مضمون باليد، احتج بأن قال: الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل تسليمه، فالنكاح لا ينفسخ بتلف الصداق، والبضع هو المعوَّض-إن كان الصداق عوضاً- ويبعد جريان الانفساخ في المعاوضات في أحد العوضين دون الآخر.
وحقيقة القولين ترجع إلى أنَّا إن قضينا بكون الصداق مضموناً ضمان العقود، فعقد الصداق على هذا ينفسخ، كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض.
ثم مِن حُكم انفساخِ البيعِ بهذه الجهة: أنَّ الثمن إن أمكن استرداده يُسترد، وإن كان فائتاً يُسترد بدلُه مثلاً إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمتُه إن كان من ذوات القيمة.
كذلك إذا حكمنا بانفساخ عقد الصداق، فارتداد البضع غيرُ ممكن؛ للإجماع على بقاء النكاح، وإذا امتنع ارتداد البضع، ثبت بدلُه، وبدلُ البضع قيمته، وهي مهر المثل.
فهذا تحقيق هذا القول.
ومن قال: الصداق لا يُضمن ضمانَ العقود؛ فما يعضد جانبَه أنَّ الصداق والبضع لا يتقابلان تقابل الأعواض؛ ولذلك لم يكن الصداق ركناً في النكاح، ثم عقدُ الصداق لا ينفسخ عند هذا القائل كما ينفسخ النكاح، بل يقال: تسليم الصداق مستحَق على الزوج، فإذا فات تسليم العين، خَلَفتها القيمة، ويجب تسليمها.
ومما يتعلق به هذا القائل: أنَّ البضع مملوك للزوج فيبعد أن يتقوّم عليه البضع الذي هو حقه وملكه؛ فكان الرجوع إلى قيمة العوض أولى من الرجوع إلى قيمة الملك.
وإنما تردد القول فيما ذكرناه؛ من جهة أنَّ الصداق لا يخرُج عن الأعواض، وليس هو على حقائقها، ومست الحاجة عند فرض تلف الصداق إلى إثبات شيء على الزوج، فاقتضى أحد القولين التشبيهَ بضمان العقود التي تنفسخ من الجانبين، وإن كان النكاح لا ينفسخ. واقتضى القول الثاني التشبيهَ بضمان ما ليس عوضاً، وإن كان الصداق عوضاً، ورجع إلى إثبات الأَوْلى من قيمة البضع أو قيمة الصداق. وسنوضح هذا بأبلغ من ذلك في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
8380- والذي نراه الآن تعجيل مقدار من التفريع على القولين يتمهد به فهمهما، فنقول: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فإذا تَلِف في يد الزوج، انقلب إلى ملكه قُبيل التلف، وقُضي بأنه باق على ملكه، وإن كان عبداً، فعليه مؤنة التجهيز، وهذا بمثابة المبيع يتلف في يد البائع، ونقضي بانفساخ البيع، هذا، ومما يتفرع على هذا القول أنَّ المرأة لو أرادت أن تتصرف في الصداق قبل القبض بالبيع، لم يصح ذلك منها، كما لا يصح بيع المبيع قبل القبض؛ فإنَّ الصداق على هذا القول مضمون بالعقد ضمان الأعواض، فلو باعته، لضمنت، ولأدّى إلى أن تكون العين الواحدة مضمونة لها وعليها، وهذا يُفضي إلى توالي الضمانين، وعليه مُنع بيع المبيع قبل التسليم.
وإن فرعنا على القول الثاني، فإنَّ بيعها ينفذ في الصداق قبل التسليم، كما ينفذ بيع المُعير في العين المستعارة؛ فإنَّ ضمان اليد لا يجانس ضمان العقد، فلا يفضي تنفيذ بيعها إلى توالي ضماني عقدين.
وإذا تلف الصداق في يد الزوج، فإنَّه يتلف ملكاً لها، وإن كان عبداً، فعليها التجهيز، والقول في ذلك كالقول في العبد المستعار يتلف في يد المستعير.
8381- ثم إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان اليد، وقد تلف، فإنْ كان من ذوات الأمثال، فعلى الزوج مِثلُه لزوجته، وإن كان من ذوات القيم فعليه قيمتُه.
ثم اختلف قول الشافعي، فذكر في مسائل الباب قولين في كيفية اعتبار القيمة:
أحدهما: أنَّ الزوج يضمنه ضمان الغصوب، فعليه أقصى القيمة من يوم الإصداق إلى يوم التلف، قياساً على الغصب.
والقول الثاني- إنه يضمن الصداق بقيمته يوم الإصداق. ووراء ذلك سرٌّ عظيم، هو مركز الفصل، فليكن هذا على ذُكْر الناظر حتى ينتهي إليه.
وقد اختلف قول الشافعي في أنَّ العين المضمونة على المستام على أي وجه تضمن؟ فقال في قول: تضمن ضمان الغصوب. وقال في قول: إنها تضمن بقيمة يوم القبض. ولا يُجري في المستام إلاَّ هذين القولين.
وفي المستعير هذان القولان أيضاً، وقولٌ ثالث- وهو أنَ الاعتبار بقيمة يوم التلف إذا؛ لم يجر فيه من المستعير عدوان. وهذا القول يجري في المستعير؛ من جهة أنَّا لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، والمستعارُ ثوب مثلاً، فالأجزاء التي انسحقت بالبِلي إلى يوم التلف لا تكون مضمونة على الرأي الظاهر، فلو اعتبرنا قيمةَ يوم القبضَ، لأدخلنا تلك الأجزاء في الضمان. وإن قلنا نعتبر قيمة الثوب منسحقاً يوم القبض، عَسُر ذلك، فتعين وقتُ التلف، وقيمةُ الثوب على ما يصادَف عليه.
وهذا ليس بمَرضيّ؛ فإنَّا إن ألحقنا هذه الأيدي بيد الغاصب، فهو قياس متجه؛ من قِبل أنَّ العين موصوفة بالضمان في كل وقت؛ فلا معنى لتخصيص وقت بالاعتبار، وهذا يفضي إلى إلزام الأقصى، ولا فرق بين الغاصب والمشبه به إلاَّ في المأثم.
وتحقيق ذلك أن وجوب ضمان الرد يجمعهما، فهذا وجه.
وإن لم نعتبر الأقصى في القول الثاني، فلا وجه إلاَّ أن نقول: كما تثبت اليد يثبت الضمان، فنتمسك بأول معتبر، حتى كأن القبض إتلاف.
وإن قال قائل: هلاَّ وجهتم اعتبار يوم التلف في الأيدي كلِّها؛ لأنَّ رد العين بالتلف يفوت، والقيمة تلوُ العين وبدلُها؟ قلنا: هذا يوجب نفي الضمان قبل التلف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ العين مضمونة قبل التلف على القابض، فيستحيل قصر الضمان على وقت التلف، ويستحيل تأخيرها عن أول وقت الحكم بالضمان، وقد ذكرت قولاً بالغاً في هذا في كتاب العاريّة، واستوعبت ما قاله الأصحاب، وأتبعته بالبحث، على العادة.
وغرضنا الآن في الصداق إجراء القولين في اعتبار القيمة، أحدهما- أنَّا نعتبر يوم الإصداق، وفي هذا مزيد نظر يقتضي تعيين يوم الإصداق، كما سنذكر الآية، إن شاء الله عز وجل.
8382- ثم فرَّع الأصحاب على هذين القولين حكمَ الضمان في الزوائد التي تحدث في يد الزوج: المتصلة منها والمنفصلة. وقالوا: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان الغصوب، فالزوائد بجملتها تدخل في ضمان الزوج-قياساً على الغاصب- مع ما يحدث في يده من الزوائد. وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالزوائد لا تكون مضمونة عليه، وهي بمثابة الثوب تطيره الريح، فتلقيه في دار إنسان.
ومما فرّعه الأصحاب: أنَّ الزوج إذا انتفع بالصداق، فإن قلنا: إنه مضمون عليه ضمان اليد، فيلزمه أجر المثل. وعلى هذا القول، لو لم يستعمله وطال مكثه في يده، فالضمان يخرج على قولي الغصب ونفيه، فإن أثبتنا ضمان الغصوب ضَمَّنّا الزوجَ المنافعَ، كصنيعنا بالغاصب.
وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالمنافع التي تفوت من غير تفويته، بمثابة الزوائد التي تحدث وتفوت.
وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فالمنافع التي تفوت لا تكون مضمونة على الزوج، وكذلك ما يفوت من المنافع في يد البائع لا يكون مضموناً عليه. وإن انتفع الزوج بالصداق-على قولنا: إنه مضمون ضمان العقد- فهو كما لو انتفع البائع بالمبيع، وإن اتفق ذلك، ففي وجوب الأجر عليه جوابان مبنيان على أنَّ جناية البائع على المبيع، بمنزلة آفة سماوية، أو هي كجناية أجنبي؟ وفيه قولان: فإن جعلناها كالآفة، لم يجب الأجر، وإن جعلناها كالجناية، وجب الأجر بسبب الاستعمال.
وهذا جوابنا في الزوج إذا قلنا: ضمان الصداق ضمان العقود. فهذا تأسيس القولين وبيانهما بالتفريع في عقد الباب.
8383- ومما أذكره-وبه يحصل تمام البيان- أنَّ الرجل إذا أصدق امرأته عبداً عيّنه، فخرج مُسْتَحَقَّاً مغصوباً، ففيما يجب مهراً قولان:
أحدهما: أنَّ الواجب مهر المثل.
والثاني: أنَّ الواجب قيمة ذلك العبد المُصْدَقِ.
وهذا الاختلاف متلقًى مما قدمناه من اختلاف القول في تلف الصداق.
وتحقيق القول فيه، أنَّ الصداق إذا تلف، وقلنا: الواجب قيمته، فقد أبقينا عقد الصداق، كما أوضحنا فيما سبق، وإن كانت العين فائتة، فإذا استقل عقد الصداق دواما والعين فائتة؛ نزولاً على قيمة العين وماليتها، انعقد العقد على المالية ابتداءً، وإن لم يعتمد عيناً مملوكة. وآية ذلك، وفيه السر الموعود في أنَّا نعتبر يوم الإصداق- أنَّا نقدر أن العين لم تكن، والإصداق ورد على القيمة، والقيمة المسلَّمة هي الصداق، على القول الذي نفرِّع عليه.
وإن حكمنا بأنَّ العقد ينفسخ بتلف الصداق، فلا بقاء إذاً للعقد من غير ارتباطٍ بعين، فلذلك يفسد الإصداقُ ابتداءً، ويجب الرجوع إلى مهر المثل.
وكنت أود لو قصروا التلف على القولين كما مضى، وقطعوا القول بأن الصداق إذا خرج مستحَقاً، فالرجوع إلى مهر المثل؛ فإنَّ صداق المغصوب فاسد؛ من جهة أنه لا متعلق له، وليس كما إذا ثبت الصداق، ثم تلف؛ فإنَّ التردد في الرجوع يُحمل على محاملَ ذكرناها.
ولكن أطبق الأصحاب على ما ذكرته من إجراء القولين في الابتداء، والتصريح بأحدهما من التلف في الانتهاء.
8384- وأنا أذكر الممكن وراء هذا، فأقول: النكاح لا يفسد بفساد الصداق، كما لا ينفسخ بتلف الصداق، فإذا فُرض في ابتداء النكاح تسمية متعلقة بمغصوب، فقد اتفق العلماء على إثبات عوض، والعين لم تثبت، ولم يقصد المتعاقدان إثبات قيمة البضع، وإنما جرّدوا قصدَهما إلى إثبات هذا العوض المسمّى، فرجع حاصل الخلاف إلى أنَّ أحد القائلَيْن يقول: إثبات بدل المسمى أقرب؛ فإنهما رضيا به ماليةً، وقدراً، وعسر إثبات عينه، ولو أثبتنا مهر المثل، لكان إثباتَ ما لم يقصداه.
والقائل الثاني يقول: نأخذ من تسميتهما قصدَ العوض وعدمَ الرضا بالتفويض، ويفسد ما تعرضا له. ونقول: كأنَّ التسمية لم تكن، واضطررنا إلى إثبات عوض، وكان إثباتُ قيمة البضع أقربَ.
وهذان القولان يجريان في الخُلع، والمصالحة عن دم العمد، فإنهما لا يفسدان بفساد العوض، كالنكاح. فإذا جرى ذكر عوض فاسد، وامتنع إثباته، ففي قولٍ يثبت بدل ذلك العوض، ويُجعل ذكر العوض التزاماً، وفي قولٍ يُرجع إلى قيمة المقصود، إمَّا مهر المثل، وإما الدية في المصالحة عن الدم.
8385- وكل ما ذكرناه فيه إذا عَيّنا عبداً، فخرج مغصوباً، فأما إذا خرج المعيّن حراً، فقد أجمع الأئمة على تنزيل ذلك بمنزلة ما لو خرج عبداً مغصوباً. وطردوا القولين فيما يجب:
أحدهما: أنَّ الواجب مهر المثل.
والثاني: أنَّ الواجب قيمة ذلك الشخص لو قُدّر رقيقاً.
وهاهنا يجب أن يتثبّت الناظر.
قال الشيخ أبو بكر في مجموعه، والقاضي في طريقته: إنما نُجري القولين إذا لم تفسد العبارة، فأما إذا فسدت، فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً.
وبيان ذلك أنه لو قال: "أصدقتها هذا الحر". فاللفظ فاسد، والعقد لا ينعقد باللفظ الفاسد، فالرجوع إلى مهر المثل. وإنما محل القولين فيه إذا قال: "أصدقتكِ هذا العبد"، وهذا يُضعف القولين فيه إذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فإذا تبيّنا بالأَخَرَة أنَّ اللفظ فاسد إذا بان ذلك الشخص حراً، ولا حكم للظنون بعد التبين، وتسمية الحر عبداً فاسد، ولم يَرِد العقد على عبد مرسل.
قال شيخي أبو محمد: هذا له التفات على مخالفة اللفظ الإشارةَ في مثل قول القائل: "بعتك هذه الرَّمَكَة"، فإذا المشار إليه بقرة، فإنَّ من أصحابنا من يغلِّب الإشارة ويُصحح البيع، ومنهم من يغلّب العبارة ويفسدها. فإذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فالعبارة صحيحة، والمشار إليه فاسد غير صالح للعوضية.
وهذا الذي ذكره لا يشفي الغليل. وذلك أنَّ المشار إليه إذا فسد، فيجب تنزيل العبارة على حكم الفساد، والخلاف الذي ذكره، فيه إذا اقتضت الإشارة تصحيحاً لو فرض الاقتصار عليها، والعبارة تخالف الإشارة، فمن الأصحاب من يُحبِط العبارة ويغلِّب الإشارة.
وحاصل ما ذكره الأصحاب-بعد ما ذكرناه من وجوه الإشكال- أنه لو قال: "أصدقتكِ هذا الحر "؛ فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً.
وإذا قال: "أصدقتكِ هذا العبدَ "-وهو حر- فقولان. هذا منتهى الإمكان.
8386- ولو قال: "أصدقتك هذا العصير"، فتبين أنه خمر، أو قال: "أصدقتك هذه النعجة"، فإذا هي خنزير؛ فقد اضطرب طرق الأئمة. فالذي قطع به شيخي وطائفة من الأصحاب: أنَّا نحكم بالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً من غير تفصيل، ولا ننظر إلى العبارة ما اشتملت عليه، وذلك لأنَّ الخنزير لا يقبل التقويم، وكذلك الخمر، فلو قوّمناهما، لاستحال، ولو قدرناهما نعجة وعصيراً، كان هذا تقريراً لتقدير الصفة الخِلْقية، وليس كالرق نقدره في الحر؛ فإنه حكم، والتقدير أن يحتمل تقدير الحكم، فأما أن يبنى على تغيير الخلق، فهذا لا سبيل إليه، فصار تعذر التقويم في الخمر والخنزير بمثابة تعذر التقويم في المجهول، ولا خلاف أنَّ من أصدق امرأته مجهولاً، فالرجوع إلى مهر المثل.
8387- وذهب القاضي والصيدلاني إلى إجراء القولين في الخمر والخنزير، ثم بنى هؤلاء مسلكهم على العبارة؛ فقالوا: إذا قال: "أصدقتكِ العصير"، وهو من ذوات الأمثال، فخرج خمراً، ففي قولٍ نوجب مهر المثل، وفي قولٍ نوجب مثل العصير.
وإن قال: "أصدقتكِ هذه الخمر"، فاللفظ فاسد على رأيهم، والرجوع إلى مهر المثل. وعند ذلك تتفق الطرق.
ولست أدري ما يقوله هؤلاء فيه إذا قال: "أصدقتكِ هذا"، واللفظ لا فساد فيه، ولم يجر فيه ما نعتمده في تقويمِ أو اعتبارِ مِثْلٍ، والخمرة لا تتقوم، فيظهر هاهنا أن ذلك ينزّل منزلة قوله: "أصدقتكِ هذا الخمر "؛ فإنا لو لم نقل به، لم يمكننا أن نعتبر الخمر بالعصير، ولو فعلنا توجَّه أن نعتبرها خلاً، ولا ضبط.
ويبعد أن تُعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة- كما صار إليه بعض الأصحاب في أنكحة أهل الذمة إذا اتصلت بالإسلام، وقد جرى القبض في بعض الخمور المجعولة صداقاً.
وكل ذلك خبطٌ في هذا المقام، والوجهُ: القطع بالرجوع إلى مهر المثل في تسمية الخمر، وفي الإشارة المطلقة، وليس كالإشارة المطلقة إلى الحر؛ فإنّه قد يتجه تنزيلها منزلة قوله: "أصدقتكِ هذا العبد " فإنَّ تقويم الحر ممكن على حال.
ومن لطيف ما يجب التعرض له: أنه إذا قال: "أصدقتكِ هذا العصير"، فإذا الخمرُ مشوبةٌ بالماء، فنعتبر عصيراً على قدرها. والجملة أنَّا نقدر تلك الشدة حلاوة، إذ لو لم نفعل هذا، فالعصير مجهول، نص على ما ذكرتُه الصيدلاني.
وعلى هذا قد لا يكون العصير من ذوات الأمثال، فالرجوع إلى القيمة.
8388- ووراء هذا غائلة، وهي: أنه إن انقدح في الخمر والعصير ما ذكرناه، فما وجهه في الشاة والخنزير، وأنه شاةٌ ترعى؟ وكيف التقريب بين الشاة والخنزير؟ فإن فُهِم إبدال الشدة بالحلاوة في الخمر، وتقدير العصير؛ فكيف السبيل في الشاة والخنزير؟ وهذا وضَّح أنَّ الوجه: القطع بأنَّ الرجَوع إلى مهر المثل.
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حقيقة القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أو باليد.
ورجع حاصل الكلام في الفوات الطارىء والفساد المقترن: أنَّ التقويم إن أمكن، فقولان:
أحدهما: أنَّ الرجوع إلى مهر المثل.
والثاني: أنَّ الرجوع إلى القيمة. والحر مما يمكن تقدير تقويمه، والمجهول لا يمكن تقويمه، فإذا اضطررنا إلى إثبات عوض، فلا طريق إلاَّ الرجوع إلى مهر المثل.
وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد ففي الخمر والخنزير التردد الذي حكيناه.
ولا خلاف أنَّ الشقص إذا أُثبت صداقاً، فالشفيع لا يأخذه بقيمته، وإن رجعنا في التفاصيل التي ذكرناها إلى قيمة الصداق؛ فإنَّ الشفيع أبداً يأخذ بعوض مقدر في مقابلة الشقص، فبابه ينفصل عما نحن فيه، وهو بيِّن عند التأمل.
فصل:
8389- إذا تمهّد ما ذكرناه في تمهيد القولين، جاز بعده أن نذكر ما يلحق الصداقَ في يد الزوج من ضروب التغايير، فنذكر تقاسيمَ جامعةً، ونوضح في كل قسم ما يليق به، إن شاء الله عز وجل، فنقول:
الصداق لا يخلو: إما أن يبقى على صفته حتى يسلِّمه إليها، أو يطرأ مُغيِّرٌ، فإن بقي على هيئته حتى سلمه إليها، فقد تخلص عن العهدة، وإن تغير، لم يخل: إمَّا أن يتغير مع بقاء العين، أو يتغير بالتلف.
فإن تغيّر مع بقاء العين، لم يخل: إمَّا أن تغير بالزيادة أو تغير بالنقصان، فإن تغير بالزيادة، فالصداق مع الزيادة مسلمة إليها، سواء كانت متصلة أو منفصلة.
وإن كان التغير بالنقصان، فلا يخلو: إما أن يتغير بنقصان جزء أو نقصان صفة، فإن تغير بنقصان صفة، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بآفة سماوية أو جناية، فإن انتقص بآفة سماوية فعمِيَ، أو عوِرَ، أو سقطت إحدى يديه، أو هُزِل وكان سميناً، فهذا يتفرع على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فلها الخيار بين الإجازة والفسخ، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، كالمبيع يتعيّب في يد البائع، فإنه يرده المشتري إن شاء ويسترد الثمن. وإن أجازت، رجعت بالصداق معيباً ولم ترجع بشيء، كالمشتري يرضى بالعيب الحادث بالمبيع.
وإن قلنا: هو مضمون باليد، فيثبت الخيار للمرأة أيضا، فإن فسخت، رجعت بالقيمة، وإن اختارت أَخْذ الصداق، كان لها أن تغرّمه أرش العيب؛ فإنَّ التفريع على أنَّ الصداق مضمون باليد، وما كان مضموناً باليد، فعيبه مضمون على صاحب اليد.
8390- ومما يتصل بهذا المنتهى أنَّ المرأة إذا اطلعت على عيب قديم، وقلنا:
إنه مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت إلى القيمة، والاعتبار بقيمة العين وهي سالمة؛ إذ هذا فائدة الفسخ.
فإن قيل: هلاّ قلتم: إنها إذا ردت الصداق بالعيب، كان الرجوع إلى مهر المثل؟ وإن فرعنا على ضمان اليد؛ فإنَّ التعويل في ضمان اليد على أنَّ عقد الصداق قائم لا يرتفع بتلف المهر، والرد يتضمن الفسخ على كل حال، فكان يجب أن يقال: إذا فسخت، فرجوعها إلى مهر المثل؟
قلنا: هذا وهم وغلط؛ فإنا إذا أجرينا القولين في خروج المسمى مغصوباً وحراً، مع العلم بأن الحرية والاستحقاق يخلفان المعيّن عن الإصداق، فالرد آخراً لا يزيد على اقتران الاستحقاق والحرية بالعقد أوّلاً، هذا إذا فسخت بالعيب القديم.
فأمَّا إذا أجازت، فالمسألة محتملة في أنها هل ترجع بأرش العيب، والتفريع على قول القيمة، وقد تردد جواب القاضي فيه، حتى لم ينقل عنه جواب باتٌّ، وسبب الاحتمال أنا إذا جعلنا الإصداق مضموناً باليد، فَيَدُ الزوج لم تثبت إلا على معيب من وقت الإصداق، فتغريمه الأرش-وقد قنِعت المرأة بالعين- لا معنى له، والأوجه في العقد أن تملك تغريمه؛ فإنها رضيت بالعين أولاً على تقدير السلامة، فكأنها استحقتها بالعقد، فإن تخلفت، كان ذلك كتخلف الرق عند بُدوّ الحرية في الشخص المسمى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا انتقص الصداق بآفة سماوية.
8391- فأما إذا انتقص بجناية جانٍ، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجنايتها، أو جناية غيرها.
فإن انتقص بجنايتها، يسلِّم الزوجُ العينَ ناقصةً إليها، وكانت بالجناية في تقدير القابضة لما نقص بالجناية.
وإن انتقص بجناية غيرها، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجناية أجنبي، أو بجناية الزوج.
فإن انتقص بجناية أجنبي، فلها الخيار على القولين، فإن أجازت، وقلنا:
الصداق مضمون بالعقد، رجعت بالأرش على الأجنبي؛ فإنه جنى عليها، ولا طَلِبة لها على الزوج. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وقد أجازت، فهي بالخيار يعد الإجازة بين أن ترجع بالأرش على الأجنبي، وبين أن ترجع به على الزوج؛ وذلك أنَّ الصداق مضمون على الزوج ضمانَ اليد، ثم إن غرمت الأجنبي، فلا رجوع له على أحد، وإن غرمت الزوج، رجع بما يغرَمه على الجاني الأجنبي. هذا إذا اختارت المرأة الإجازة، وقدمنا الحكم على القولين فيه.
فأمَّا إذا فسخت؛ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بمهر المثل، فحسب، وردّت العبد، ثم الزوج يرجع على الأجنبي بأرش الجناية.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإذا فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة مع تقدير السلامة عن هذا العيب، ثم يَتْبع الزوجُ الجانيَ بالأرش.
8392- وإن انتقص الصداق بجناية الزوج، فإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فلها الخيار، فإن أجازت، أخذت العين ورجعت بالأرش، وإن فسخت، رجعت بالقيمة مع تقدير السلامة. وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد، وقد جنى الزوج، فهذا ينبني على أنَّ جناية البائع على المبيع يُنزَّل منزلة الآفة السماوية، أو يُنَزَّل منزلة جناية الأجنبي؟ وفيه قولان، فإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بالآفة السماوية، فقد ذكرنا حكم ذلك، وإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بجناية الأجنبي، فقد ذكرنا حكم ذلك أيضاً. وكل ذلك فيه إذا كان التغيير بنقصان الصفة.
8393- فأما إذا نقص جزءٌ من الصداق، وذلك بأن يصدقها عبدين فيموت أحدهما، أو قفيزين فتلف أحدهما، فهذا يلتحق بفروع تفريق الصفقة، وتخريجه على قواعد التفريق هيِّن. وظاهر المذهب أنَّ العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف. والظاهر أنها إن أجازت العقد في القائم، أجازته بحصته من الصداق، ولا يخفى التفريع على الآخر.
فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بحصة التالف من مهر المثل، وإن قلنا: مضمون باليد، رجعت بقيمة التالف.
8394- وقد أفضت بنا التقاسيم بعد نجاز القول في التغايير إلى الكلام في تلف الصداق في يد الزوج، فنقول: إن تلف بآفة سماوية، فالقولان مشهوران، وهما أُمُّ الباب، وإن تلف الصداق بإتلاف مُتلِف، فلا يخلو: إمَّا أنْ يكون المتلِفُ هو المرأةُ، أو غيرُها.
فإن كانت هي المتلفة، جعلناها قابضة للصداق، وخرج الزوج عن العهدة.
وإن كان المتلف غيرَها، لم يخل؛ إمَّا أنْ يكون أجنبياً، أو يتلفه الزوج. فإن كان المتلف أجنبياَّ، وفرّعنا على أنَّ الصداق مضمون بالعقد، فالمرأة بالخيار، فإن فسخت، رجعت على الزوج بمهر المثل، ثم الزوج يَتْبع المتلفَ بالقيمة، وإن أجازت، اتّبعت المتلفَ بالقيمة، ولا طلبةَ لها على الزوج.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة، ثم الزوج يتبع المتلِف بها، وإن أجازت فلها الخيار بين أن ترجع على الأجنبي المتلف بالقيمة، وبين أن ترجع على الزوج، ثم يرجع على المتلف بما يغرم.
وإن كان المتلف هو الزوج، وقلنا: الصداق مضمون بالعقد، فهذا يبتني على القولين في إتلاف البائع، فإن جعلناه كالتلف بآفة سماوية، رجعت بمهر المثل، وإن قلنا: هو كإتلاف الأجنبي، فقد سبق حكمه، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، وإن أجازت رجعت بالقيمة.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فهذا يتفرع على أنه على أي وجه يضمن؟ فإن قلنا: إنه يضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لها في الفسخ، بل لا معنى للفسخ؛ فإنها كيف فرضت الأمر، تُغَرِّم زوجها أقصى القيم. وإن قلنا: إنه يضمن باعتبار يوم الإصداق، فإن كانت قيمة يوم الإصداق أكثر، فلا فائدة في الفسخ أيضاً، ولها قيمة ذلك اليوم إذا قلنا: إتلاف البائع كالتلف بآفة سماوية.
وإن قلنا: إتلافه كإتلاف الأجنبي، فلو لم تفسخ، فليس لها إلا قيمته عند الإتلاف، وإن فسخت غرّمت الزوجَ قيمةَ يوم الإصداق.
وإن كانت القيمةُ يومَ الإصداقِ أقل، وقلنا: جناية البائع كالتلف بالآفة السماوية، فلا فائدة في الفسخ؛ فإنه ليس لها إلاَّ قيمة يوم الإصداق، فإن جعلنا التلف بجناية البائع كالمتلَف بجناية الأجنبي، فلسنا نرى لها أيضاً فائدة في الفسخ؛ فإنها إن لم تفسخ، غرَّمته قيمةَ يوم الإتلاف، وهي أكثر، وإن فسخت رجعت إلى قيمة يوم الإصداق، وهي أقل. فلا ينبغي أن نُثبت لها الفسخ؛ إذ لا غرض فيه إلاَّ التنقيص والحط، وليس كما لو اطلع المشتري على عيب المبيع، وكانت قيمته أكثر من الثمن مع العيب، فإنَّا نثبت حق الرد لاختلاف جنس الثمن والمبيع المعيب، فقد يكون له غرض في رد المعيب. فهذا ما رأيناه في ذلك.
8395-ومما يتعلق بتمام البيان في هذه الفصول، أنَّ المرأة إذا طلبت الصداق، فامتنع الزوج من تسليمه إليها حتى تلف، فالامتناع ظلم منه وعدوان، فإذا حصل التلف في يد عادية، فينبغي أن نجعل ذلك كحصول التلف بإتلافه، ونقول: البائع لو منع المبيع، فتلف في يده بعد ما وجب عليه تسليمُ المبيع، فهو كما لو أتلفه، فنذكر حكم المهر إذا فرض بعد العدوان بالامتناع، ونفرّع هذا على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن جعلناه مضموناً بالعقد، فلها الخيار، فإن فسخت رجعت بمهر المثل، وإن أجازت، فبالقيمة، إذا جعلنا إتلاف الزوج كإتلاف الأجنبي.
فإن جعلنا إتلافه كالتلَف بآفة سماوية، فلا حاجة إلى الفسخ؛ فإنَّ الصداق ينفسخ ولها مهر المثل.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وفرعنا على أنه يُضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لترديد النظر في الفسخ والإجازة، ولها طلب أقصى القيم.
وإن قلنا: الصداق مضمون بقيمة يوم الإصداق، وكانت قيمة يوم الإصداق أكثر، فلا فائدة أيضاً، ولها قيمة يوم الإصداق وإن كانت أقل، ضمن أيضاً أكثر الأمرين، من قيمة يوم الإصداق، ومن قيمته من يوم المنع إلى يوم التلف؛ لأنه متعدٍّ بالمنع، فيضمن ضمان الغصب بعد المنع.
8396- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فأما إذا كان الصداق دَيناً، فالذي يليق بهذا القسم الكلامُ في جواز الاستبدال، فإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد، كان كالقرض، فإذا كان ديناً وقيمة المتلف، فيجوز الاستبدال عنه قولاً واحداً، فإنا إذا كنا نجعل العين المُصْدَقَة مضمونة باليد غير مضمونة بالعقد، فنجعل الدين بمثابة ما يثبت لا على سبيل العوض.
وإن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون بالعقد ومنعنا بيعه قبل القبض عيناً، فإذا كان ديناً كان كالثمن، لا كالمسلَم فيه، وقد ذكرنا اختلاف قول الشافعي في جواز الاستبدال عن الأثمان.
وقد نجز الغرض من تقاسيم الفصل، ونحن الآية نعقد فصلاً فيه إذا طلَّق الزوجُ زوجته قبل المسيس وبعده، ونذكر حكم تشطر الصداق، وما يلحقه من التشاطير في يده أو يدها.
فصل:
8397- إذا طلّق زوجته قبل الدخول، فقد استقر لها ملك الصداق، فإن كانت قَبَضَتْهُ على ما استحقته، فلا كلام. وإن كان في يد الزوج، فعليه تسليمه، فإن لحقه في يده تغيّر، فقد تقدم القول فيه مستقصًى.
وإن طلّقها قبل المسيس، فلا يخلو الصداق إما أن يكون عيناً أو ديناً، فإن كان عيناً فالمذهب الأصح أن نفس الطلاق يُشطِّر الصداق، ويتضمن ارتداد نصفه إلى ملك الزوج سواء اختار ذلك أو لم يختره.
وفي المسألة وجه مشهور بأنه لا يرجع النصف إلى الزوج ما لم يختر تملكه، فإذا اختاره، رجع إليه إذ ذاك.
ووجه الوجه الأوّل ظاهرُ قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، وهذا حكم من الله تعالى، لا تعلُّقَ له بقصدِ الزوجِ واختيارهِ، وأيضاً فإنَّ موجِب رجوع ما يرجع انبتاتُ النكاح قبل استيفاء المقصود، حتى قيل: بقاء النصف عليها غير منقاس. وهذا المعنى يوجب حصول التشطر من غير قصد، كالفسوخ التي تتضمن ارتداد جميع الصداق.
ومن نصرَ الوجه الضعيف، احتج بأنَّ الطلاق ليس فسخاً للنكاح، ولكنه تصرفٌ فيه، غير أن الشرع أثبت له مستدركاً في مقدارٍ من الصداق. فليتعلق ذلك باختياره.
التفريع على الوجهين:
8398- إن حكمنا بأنَّ الصداق يتشطر بنفس الطلاق من غير إحداث سبب آخر، فلو حدثت زيادة بعد الطلاق، فهي متشطرة بين الزوج والزوجة؛ لأنها حدثت على المِلكين. وإن قضينا بأنَّ رجوع الشطر يتوقف على اختيار التملك، فالزيادة الحادثة بعد الطلاق وقبل اختيار التملك خالصةٌ للزوجة، والمعنيّ بالزيادة ما ينفصل.
ولو حدث بين الطلاق وبين اختيار التملك نقصانٌ راجع إلى الصفة، نُظر: فإن كان الصداق في يده، فلا إشكال ولا تفريع، وإن كان في يدها، تفرع على الوجهين: فإن قلنا: الملك في الشطر لا يرجع إلى الزوج قبل اختيار التملك، فما حدث من عيب بعد الطلاق وقبل الاختيار، فهو بمثابة ما يحدث من العيب قبل الطلاق، فإذا جرى ذلك في يدها، فللزوج التخيُّر بهذا السبب، كما سنصفه على الاتصال بهذا، إن شاء الله تعالى.
وإن حكمنا بأنَّ الملك بنفس الطلاق يتشطر، فإذا كان الصداق في يدها، فالذي ذهب إليه المحققون من أئمة المراوزة أن النصف الراجع إلى الزوج أمانة في يدها، ولا يلحقها بسبب ما يطرأ من العيب بعد الطلاق من غير عدوانها عهدة وضمان.
ولو تلف الصداق في يدها بعد الطلاق، ولم تنتسب إلى الاعتداء، لم تضمن النصفَ الراجع إلى زوجها.
هذا ما ذكره القاضي والصيدلاني وجماعة المراوزة.
وقطع العراقيون قولهم بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها؛ فلو تلف ضمنته من غير تقصير.
وشبهوا هذا النصف في يدها بما لو باع عبداًً بجارية، ثم رُدت الجارية بالعيب ولزم رد العبد، فما لم يرده على صاحبه يكون مضموناً عليه، حتى لو تلف العبد في يده، ضمنه. فهذا مسلكهم، وهو مخالف لطريق المراوزة. وقد فرقوا بين النصف الراجع إلى الزوج، وبين المسألة التي استشهد بها العراقيون من بيع الجارية بالعبد، فقالوا: العبد عوض الجارية المردودة، فإذا رُدَّت، فمن حكم المعاوضة إثبات الضمان في العوض حتى يُردَّ، والنصف من الصداق لا يرتد في مقابلة عوض " فإنَّ النكاح لا ينفسخ بالطلاق، فالمسألة محتملة جداً؛ فإنَّ رجوع نصف الصداق في مقابلة انقلاب منفعة البضع إليها من غير استيفاء، ولولا هذا، لكان يجب ألاَّ يرتد من الصداق شيء.
8399- ولو كانت قبضت الصداق، ثم فسخ الزوج النكاح بسببٍ يتضمن استرداد جميع الصداق، فالذي يقتضيه قياس الطرق كلها: أنَّ الصداق يكون مضموناً عليها حتى تردّه؛ فإنه في هذا المقام يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ.
وإذا ارتد الزوج قبل المسيس، وحكمنا بأنَّ ردته بمنزلة الطلاق في تشطير الصداق، فالعراقيون إذا ضمّنوها نصف الصداق عند الطلاق، فلا شك أنهم يطردون مذهبهم في هذه الصورة.
والذي يقتضيه قياس المراوزة أنَّ نصف الصداق لا يكون مضموناً على المرأة قياساً على نصفه وقد طُلِّقت قبل المسيس، ولا نظر إلى الانفساخ؛ فإنَّ الصداق في ذمة الزوج لا يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ؛ إذ لو كان يرتد ارتدادها، لارتد جميع الصداق.
ومما يتعلق ببيان الوجهين، أنَّا إن جعلنا الطلاق بنفسه مشطِّراً، فلا خِيَرة.
8400- ولو قال الزوج: طلقتك على أنَّ جميع الصداق متروك عليكِ، فلا حكم للفظهِ، وإن أراد ترك الصداق، فليهب منها النصفَ المرتد إليه، وإن حكمنا بأنَّ الارتداد يتوقف على اختيار التملك، فسبيل اختيارِهِ كسبيل الرجوع في الهبة. وسيأتي شرح ما يكون رجوعاً فيها، إن شاء الله تعالى.
8401- والذي ترددت فيه مرامز كلام الأئمة: أنَّ المرأة بعد الطلاق هل تملك التصرف في النصف الذي يستحق الزوج تملكه قبل أن يختار التملك؟ يجوز أن يُقال: تملك التصرف فيه ملكَ المتهب، أو كما تملك قبل الطلاق التصرفَ في جميع الصداق، مع قدرة الزوج على أن يطلقها متى شاء. وهذا هو القياس.
ويجوز أن يُقال: لا تتصرف، بخلاف المتهب؛ فإنَّ الهبة معقودة للإفضاء إلى تمليك التصرف.
وكذلك القول فيما قبل الطلاق إذا طلقها الزوج، فالطلاق سبب متجدد يقتضي التسلط على تشطير الصداق، فينبغي أنْ نُلْحقها بالملك في زمان الخيار.
ثم على هذا يطول النظر في العتق والبيع، وما يقبل التعليق وما لا يقبله، وقد مضى تفصيل ذلك في أول كتاب البيع. والظاهر تنزيلها-على اشتراط اختيار التملك- منزلةَ المتهب، ومنزلةَ المرأة قبل الطلاق، حتى تتسلط على التصرف.
ولا حاصل لقول من يقول: المتهب إذا تصرف في العين بإزالة الملك عنها، لم يغرمْ للواهب شيئاً إذا رجع. والمرأة إذا أتلفت الصداق قبل اختيار التملك، ثم اختار الزوج الرجوع إلى نصف الصداق، فإنه يرجع عليها بشطر القيمة؛ وذلك أنَّ هذا المعنى يتحقق قبل الطلاق، ثم تصرفها نافذ، وإن كانت لو أخرجت العين، رجع الزوج عليها بنصف قيمتها إذا طلقها.
8402- ومن تمام القول في ذلك أن الزوج إذا طلق قبل المسيس، ولم يصادف عين الصداق، والتفريع على اختيار التمليك، فهذا فيه عُسر في هذه الحالة، ولكن وجهه أن يثبت له اختيار الرجوع إلى شطر الصداق، فإذا اختاره، رجع عليها بنصف القيمة. ولا عود بعد ذلك إلى هذا الوجه الضعيف، والتفريع على أنَّ الطلاق بنفسه يشطّر الصداق.
8403- وقد ذكر الشافعي في فصول (السواد) لفظةً أشكلت على المراوزة، فنذكرها ونذكر ما قيل فيها.
قال: "وهذا كله ما لم يقضِ له القاضي بنصفه، فتكون ضامنةً لما أصابه في يدها... إلخ"، فتقييد الشافعي الكلام بقضاء القاضي لا يليق بظاهر المذهب؛ فإنَّا أوضحنا أنَّ الظاهر تشطير الصداق بنفس الطلاق.
فقال الأئمة: معنى قوله: "هذا كله ما لم يقض له القاضي". أي: لم يدخل وقت يقضي القاضي فيه بارتداد شطر الصداق إلى الزوج، وكأن المراد أنَّ ذلك إذا لم يطلق الزوج، فإذا طلق، فقد حان وقت القضاء للزوج بنصف الصداق إذا التمس ذلك من القاضي.
وقد ذكر شيخي في دروسه أنَّ من أصحابنا من قال: يتوقف تشطّر الصداق على قضاء القاضي، وكان لا يحكي اختيار التملك كما ذكره الأصحاب، بل كان يذكر المذهب الظاهر في التشطر، ثم يقول: مِن أصحابنا من قال: لا يتشطر حتى يقضي القاضي بالتماس الزوج.
وهذا وإن كان يعتضد بظاهر النص، فهو وهمٌ وغلطٌ لا شك فيه، ولا يليقُ بمذهب الشافعي ألبتة.
ومما أشكل على المراوزة من هذا اللفظ أنَّ الشافعي قال: "فتكون حينئذ ضامنة". وهذا تصريح بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها، وهذا يطابق مذهب العراقيين. وقد ذكر المراوزة فيه تأويلاً مستكرهاً، وقالوا: هذا مفروض فيه إذا امتنعت من رد الشطر مع طلب الزوج، فتصير متعدية.
وهذا التأويل فيه بعد، والممكن في التوجيه أنَّ الشافعي ذكر قضاء القاضي تحقيقاً للامتناع، وتصويراً لمسيس الحاجة إلى الرفع إلى الحكام، فإذ ذاك ذَكر الضمان، وهذا يَقْوَى مع مصير الأصحاب إلى أنَّ قضاء القاضي لا أثر له، فحصل بالحمل على ما ذكرناه من الامتناع صرفُ قضاء القاضي إلى الحاجة عند تقدير الحاجة.
8404- فإذا تبين ذلك، عدنا بعده إلى التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن الطلاق يُشطّر بنفسه، فنقول: الصداق لا يخلو، إما أن يكون عيناً، أو ديناً. فإن كان عيناً، فلا يخلو: إما أن يكون قد تغير أو لم يتغير، فإن لم يتغير، فلا إشكال أنَّ الشطر راجع إلى الزوج، وإن كان قد تغير، فلا يخلو: إمَّا أن تغير بالزيادة، أو بالنقصان، أو بما هو نقصان من وجه، وزيادة من وجه.
فإن تغير بالزيادة: فالزيادة لا تخلو: إمَّا أن تكون متصلة أو منفصلة، فإن كانت منفصلة؛ فهي خالصة لها إذا حصلت قبل الطلاق، ويرجع الزوج في نصف العين سواء حصلت في يده أو يدها.
وإن كانت الزيادة متصلة، فالمرأة بالخيار بين أن تسمح بالزيادة على الزوج، وإذا هي سمحت، رجع الزوج في نصف العين زائداً، وليس له أن يكلفها القيمة- ذاهباً إلى الامتناع من قبول مِنّتهَا؛ فإنَّ الزيادة المتصلة ليست مما يُفرد بمنْحه، وهي تجري على أقضية التبعية.
ويتصل بهذا المكان أنها إذا رضيت، كفى رضاها، ولا حاجة إلى قبولٍ من جهة الزوج، ولابد من تصريحها بالرضا، ولا حاجة إلى منحةٍ وهبة في تلك الزيادة.
وإن لم ترضَ رَدَّ نصفِ العين زائداً، استمسكت بها، وللزوج نصفُ قيمة العين. وهاهنا نبحث عن وقت القيمة.
قال الأئمة: نعتبر أقل قيمة من يوم الإصداق إلى يوم التسليم إلى المرأة، ولا نعتبر زيادة-إن كانت- بين الإصداق وبين التسليم، ولا نعتبر زيادة بعد التسليم، واعتل الأصحاب بأنَّ قيمة وقت الإصداق إن كانت أقل، فما فرض من زيادة، فهو في ملكها وحقها، فلا تؤاخذ به. وإن فرض نقصان القيمة بعد الإصداق وقبل التسليم، فهذا من ضمان الزوج، فلا تؤاخذ المرأة به.
وكنت أود لو قيل: إذا لم يطرأ عيب، وإنما وجد تفاوت القيمة بارتفاع السعر، فالاعتبار بقيمة يوم الطلاق؛ فإنَّ الشطر إنما يرتد إلى الزوج يومئذ والعين قائمة، ولكنه لا تردها لمكان الزيادة، فالوجه أن نقول: ما قيمة هذه العين لو لم تكن زائدة، فنعتبرها. نعم، لو تلفت العين قبل الطلاق، فيتجه إذ ذاك اعتبار أقل قيمة من وقت الإصداق، إلى وقت التسليم، كما سنشرحها، إن شاء الله عز وجل.
8405- ولو ازداد المبيع زيادة متصلة، ففُلِّس المشتري قبل توفر الثمن، فالبائع يرجع في المبيع، وإن كان زائداً، ولا تصير الزيادة سبباً لإبطال حق الرجوع في العين.
ولأصحابنا مسألتان في محاولة الفرق بين الصداق وبين المبيع في حق المفلس.
فالذي حكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال في الفرق: لو أبطلنا حق الرجوع للبائع في المبيع، فهذا يُثبت للغرماء حق المضاربة، وليس في قطع حق الزوج عن عين الصداق ما يُحبط حقه في المالية؛ فإنه إن لم يرجع في نصف العين، يرجع في نصف قيمة العين، حتى لو فرض الطلاق وهي مفلسة والحجر مطّرد، فللزوج الاستبداد بنصف الصداق وإن كان زائداً؛ فإنه لو لم يرجع بالعين، لضارب بالقيمة.
وهذه الطريقة غير مرضية، والوجه أن يقال في الفرق: البائع يرجع إلى المبيع بسبب فسخ البيع، وهذا يستند إلى استحقاق متعلق بالعقد، وإن كان الفسخ قطعاً للعقد في الحال، وذلك أنَّ العوضية تقضي ألا يُسلَّمَ عوضٌ من أحد الجانبين ما لم يسلَّمْ مقابله في الجانب الثاني، فلما كان حق فسخ البائع مستنداً إلى حالة العقد، والزيادة حدثت بعد العقد، يجوز أن يقال: لا اعتبار بها وتقع تابعة.
وأما رجوع نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، فليس يستند إلى أصل العقد استنادَ استحقاق يوجبه مقتضى العقد، وإنما هو أمر جديد لا ارتباط له بالاستحقاق السابق.
فعلى هذا إذا كانت المرأة محجوراً عليها، نظر، فإن تقدم الطلاق على الحجر، فنصف الصداق قد ارتد إلى الزوج، فطَرَيان الحجر لا يسقط ملك الزوج.
وإن جرى الحجر ثم طرأ الطلاق، فظاهر كلام الأصحاب أنَّ الزوج لا يكون أولى بنصف الصداق، فإنَّ سبب استحقاقه تَجَدَّدَ بعد تعلّق حقوق الغرماء بعين الصداق. فهذا ما نقوله ولا زيادة.
فحاصل المذهب إذاً أنَّ البائع يرجع بالعين المبيعة وإن زادت زيادةً متصلةً.
والزوج هل يرجع إذا جرى الطلاق بعد الحجر؟ فيه ترددٌ ظاهر للأصحاب، منهم من قال: لا يرجع، وإن لم تزد العين. ومنهم من قال: يرجع.
ثم الذين أثبتوا حق الرجوع اختلفوا في أن الصداق لو كان زائداً زيادة متصلة والمرأةُ محجور عليها، فهل يمتنع رجوعه بسبب الزيادة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، منهم من قال: يمتنع رجوعه إلا أن ترضى ويرضى الغرماء، ومنهم من قال: لا يمتنع رجوعه بسبب الزيادة، كما لا يمتنع رجوع البائع في البيع وإن كان زائداً.
8406- ولو زاد الصداق في يد المرأة زيادة متصلة، ففسخ الزوج النكاح بعيب بها، فالزيادة في هذا المقام لا تمنع الرجوع إلى العين، ولا أثر لها، كما لا أثر لها في الرد بالعيب والرجوع بسبب الإفلاس إلى المبيع؛ والسبب فيه أن فسخ النكاح يستند إلى استحقاق السلامة، وهو مستند إلى أصل العقد.
ولو زاد الصداق في يدها، فارتد، فقد ذكرنا أن الارتداد يوجب تشطير الصداق كالطلاق، فإذا كان كذلك؛ فالزيادة المتصلة تُثبت للمرأة الخيار كما يثبت لها الخيار إذا كانت مطلقة.
وإذا ارتدت المرأة، فردتها قبل المسيس توجب سقوط جميع المهر بطريق الانفساخ، وفي كلام العراقيين تردد في أن الزيادة المتصلة في هذه الصورة هل تمنع الزوج من الرجوع إلى العين؟ والمسألة محتملة؛ من حيث إن النكاح ينفسخ بالرّدّة، ولكن هذا الانفساخ لا استناد له إلى العقد، بخلاف الفسخ الذي يجري بتخلف السلامة المستحقة بالعقد، فيجوز أن يقال: الزيادة المتصلة تُثبت لها الخيار في الاستمساك بالعين، كما تقدم ذكره في ردة الزوج، ويجوز أن يقال: لا خِيَرة لها؛ فإنها منتسبة إلى ما يوجب قطع النكاح؛ فنَبتُّ حقَّها عن التعلق بالزيادة، كما بتتناه عن أصل الصداق، والمسألة محتملة مما يليق بأسرار الفقه.
8407- ولا إيضاح لمقصود المسألة ما دام يختلج ما ذكرناه في الصدر؛ وذلك أنا إذا أثبتنا الخِيَرة للمرأة، فيمتنع ارتدادُ شطر الصداق ما دامت المرأة مستمرة على خِيَرَتها، وبمثل هذا المعنى يعسر من الزوج مطالبتها بنصف القيمة؛ فإن التخير من جانبها يوجب تفويض الأمر إلى رأيها، ورأيُها ليس على الفور، فكيف السبيل، وما الوجه؟ وبأي طريق ينفصل الفقه في هذه المسألة؟ فنقول:
إن أعرضا جميعاً عن الطلب والرد؛ فالأمر موقوف في حق الزوج، متردد بين القيمة وبين العين وإن وجّه الزوج الطَّلِبة، فحق عليها أن ترد نصف العين مع الزيادة أو تغرَمَ نصفَ القيمة، وليس لها التسويف والمدافعة، فإن دافعت رُفعت إلى القاضي، ثم لا يَجزم الزوج دعواه في القيمة ولا في العين؛ فإن إثبات الخِيَرةِ لها يمنع الجزم في كل واحد من الوجهين، والقاضي لا يقتضي منها على أن يحبسها لتبذل القيمة أو العين إذا كانت العين عتيدة؛ فإنّ تعلُّق الزوج بالعين يزيد على تعلّق المرتهن بالرهن، وتعلق الغرماء بالتركة التي أحاطت الديون بها، فنقول لها: إن كان شطر القيمة أقلَّ من نصف العين، فيُصرف إلى الزوج نصف القيمة، ويُدفع الفاضل إليها، وإن كانت العين لا تزيد على القيمة؛ ففي هذا احتمال، يجوز أن يقال: لا يسلّم القاضي نصف العين إلى الزوج، بل يبيعُه رجاءَ أن يجد زَبوناً فيشتريه بما يساوي، ويتجه في هذا أن يقال: يسلم العين إليه إذا لم يكن فضل في القيمة؛ لأن حق الزوج متأكد في مالية العين، فالطلاق على المذهب الظاهر يملّكه شطر الصداق من غير اختيار.
هذا منتهى القول فيه.
8408- ومن بدائع الأشياء اضطراب الأصحاب في معنى قول الشافعي: "وذلك كله ما لم يقض له القاضي"، وكلامه متصل بذكر زيادة الصداق، ويتعين عندي حملُ كلام الشافعي في أن القضاء على امتناعها عن التسليم قد يقضي القاضي بتسليم العين في الصورة التي ذكرناها، وظاهر كلام الشافعي دليل على أنه لا يسلم العين إلى الزوج مطلقاً؛ فإنه جعلها ضامنة إذا تلفت العين.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تغير الصداق بالزيادة.
8409- فأما إذا تغير بالنقصان، فلا يخلو، إما أن يكون في يده، أو يدها، فإن اتفق تعيب الصداق في يده، ثم طلقها، فحق الزوج في نصف العين، فإن النقصان محسوب عليه وقد حدث في ضمانه لها، والحق ردُّ العين، كما فصلناه في تغير الصداق في يد الزوج بالتعيب.
ومما يتصل بهذا أن الصداق لو تعيب في يد الزوج بسبب جناية أجنبي فغرّمت الأجنبي الأرشَ، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فلو كان هذا التعيب بآفة سماوية، لم يكن للزوج إلا نصف الصداق، وهو معيب، والآية العيب الكائن بالصداق على صورة العيب بالآفة السماوية ولكنها فازت بالأرش، وغرّمت الأجنبي، فهل يرجع إلى الزوج نصف ذلك الأرش؟
هذا مما روجع القاضي فيه، فلم يُحر جواباً جازماً، ووجه التردد في المسألة نبهنا عليه في أن هذا العيب جرى والصداق في ضمان الزوج، وهي أخذت الأرش بحق ملكها، كما تأخذ الزوائد، والرأي الظاهر أن الزوج يرجع بنصفٍ من ذلك الأرش؛ فإن النقصان استخلف الأرش، وقيمة الشيء في الماليات تنزل منزلته، فكأن العيب لم يقع، فهذا إذا حدث العيب في يد الزوج.
8410- وإن حدث النقصان في يدها ثم طلّقها الزوج، فهو بالخيار بين أن يرضى بنصف العين ناقصاً، ويرجع فيها مع النقصان ولا يغرّمها الأرش، وبين أن يترك عين الصداق عليها لمكان العيب، ويغرّمها نصف القيمة، وهذا بناه المراوزة على أن ما يرتدّ إلى الزوج أمانة في يدها، فلا تؤاخذ بأرش النقص.
ويجوز أن يقال: وإن حكمنا بأنها مؤاخذة بالتعيب والتلف بعد الطلاق في نصيب الزوج، فلا يلزمها أرشٌ أيضاً؛ فإن التعيب قد جرى والصداق مِلكها، وليس كما إذا قلنا الصداق مضمون باليد، ثم عاب في يد الزوج؛ فإنا نثبت للمرأة تغريم الزوج الأرشَ، والفرق أن الزوج ممسكٌ ملكَها بيدٍ ضامنةٍ، على القول الذي نفرع عليه، وموجب ذلك أن يغرَم لها أرش النقصان كما يغرَم المستعير والآخذُ على سبيل السوم، والمرأة ليست حافظة للزوج ملكاً قبل الطلاق.
فهذا ما ذكره الأئمة وفيه على حالٍ احتمال، من جهة أن الصداق لو تلف قبل الطلاق، لغرمت له نصفَ القيمة، ومن يغرم القيمة بجهةٍ، لا يبعد أن يغرَم أرشَ النقص بتلك الجهة.
وإذا اشترى الرجل عبداً بجاريةٍ وجرى التقابض، ثم وجد قابض العبد بالعبد عيباً، فرده، فإذا الجارية قد عابت عيباً حادثاً في يد قابضها، فقد جرى العيب في دوام ملك قابض الجارية، كما جرى العيب في الصداق في دوام ملك المرأة، ثم إذا رَدَّ قابضُ العبدِ العبدَ، فقد ظهر مصير الأصحاب إلى أنه يسترد الجارية مع أرش العيب الحادث؛ فإنها لو تلفت، لرد العبد واسترد قيمتها. وهذا قد ذكرته في أحكام العيوب في البيع، وذكرت مضطرب الأصحاب فيه.
ويجوز أن يقال: ليس الصداق كالمسألة التي استشهدنا بها؛ من قِبل أن من ردّ العبد إنما ردّه لتخلّف سلامةٍ استحقَّها بالعقد، فعهدةُ التقابل في العوضين بيّنةٌ، وهذا لا يتحقق في الصداق.
فقد تحصل مما ذكرنا أن الذي ذكره الأصحاب في الطرق أن الزوج بالخيار إن شاء رضي بالنصف من غير أرش، وإن شاء طالب بنصف القيمة، وهذا بمثابة تعيّب المبيع في يد البائع من وجه. فإنا نقول: إن شاء المشتري ردّ المبيع بالعيب، وفسخ البيع، واسترد الثمن، وإن شاء رضي به معيباً.
فهذا ما رأيته للأصحاب ولم أر غيره، وقد أومأت إلى وجه الاحتمال، والظاهر ما ذكره الأصحاب في المعنى أيضاً، هذا منتهى القول في تغير الصداق بالزيادة، وتغيره بالنقصان.
8411- فأما إذا تغير بما يكون زيادة من وجه ونقصاناً من وجه، وذلك مثل أن يكون العبد المصدَقُ صغيراً فكبر، وازدادت قوته التي هي مادة العمل، وسببُ تكثير المنفعة، وانتقص من حيث القيمة لمجاوزته نضارةَ المراهقة. وقد يفرض في هذا القسم زيادةٌ محضة ليست في عينها نقصان مع عيب ليس فيه زيادة، مثل أن يتعلم العبد المصدَقُ صنعة، ولكن اعورّت عينه، فقد اجتمع فيه النقص والزيادة.
ومن صور هذا القسم أن يصدقها أشجاراً فتصير قِحاماً وتُرقل، فكِبرُها زيادة، ولكن يقلّ ثمرها.
والحكم في هذا القسم أن الخيار يثبت من الجانبين جميعاً، فإن رضيت المرأة برد النصف، فللزوج أن يأبى لمكان النقصان، وإن طلب الزوج العين، فللمرأة أن تأبى لمكان الزيادة.
وليس لنا أن نقول: إذا لم ترد القيمة لمكان النقص، ولم تُنْتَقَص القيمة لمكان الزيادة، فيجعل كأن لا زيادة ولا نقصان، هذا لا سبيل إليه ولا قائل به؛ فإن الزيادة قد تُعنى لعينها، وإن فرض نقصان، فالنقصان قد يُجتنب، وإن كانت زيادة، فلا طريق إلا إثبات الخيار من الجانبين لوجود العلتين، فالنقص علّة خيار الزوج، والزيادة علةُ خيار المرأة، فإن اتفقا على الرجوع في نصف العين، فذاك، وإن أبى أحدهما، فالرجوع إلى نصف القيمة، ثم لا تكفي الزيادة في صورتها؛ فإن الزيادة التي لا تُطلب ليست زيادة كالسِّلْعة تطلع واللحية تنبت.
8412- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فإن كان ديناً؛ فإذا طلقها، فلا يخلو: إما أن كان سلم الصداق إليها أو لم يسلم، فإن لم يسلم الصداق إليها، وطلقها قبل المسيس، فتبرأ ذمته عن نصف الصداق، وهو مطالب من جهتها بالنصف الباقي، وإذا فرّعنا على الوجه الضعيف في أن رجوع الشطر إلى الزوج موقوف على اختياره، فيجب طرد هذا في الدين أيضاً، حتى يتوقف سقوط النصف عن ذمته على اختياره، والعلم عند الله تعالى.
ولو أصدقها ديناً-كما صورناه- وسلم إليها ما التزم لها على الصفة المذكورة، فإن طلقها قبل المسيس، فله الرجوع بالنصف، فإن كانت تلك الأعيان المقبوضة فائتة، غرِمت للزوج نصف البدل، وإن كانت تيك الأعيان باقية فهل يتعين حق الزوج في المقبوض، أم لها أن تغرم حقّ الزوج من مال آخر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يتعين حقه، لأن العقد لم يتعلق بهذه العين ابتداءً وإنما اعتمد الوصف.
والثاني: أن حقّه يتعيّن؛ لأنه تعين بالقبض، وهذا يكون سبيل كل دين يوفَّى على مستحقه.
وكان شيخي يطرد هذين الوجهين في الثمن الواقع في الذمة إذا وُفِّر ووُفّي، ثم طرأ فسخ يوجب استرداد الثمن، ورأيته مرة يطلب الفرق بين ما ذكرناه في الصداق وبين ما أشرنا إليه في الفسوخ، ويقول: الفسخ وإن كان قطعاً في الحال، فهو مستأصل للعقد، بخلاف ما يقتضيه الطلاق من التشطير، وقد أجرينا في أجزاء الكلام ما يشير إلى قريب من هذا فيما نفيناه وأثبتناه.
فرع:
8413- إذا أصدق الرجل امرأته جارية، فبقيت في يد الزوج، وعلقت بولد حادث وولدته، ثم ماتت الجارية قبل القبض، وطلقها قبل المسيس، قال العراقيون: هذا يُخرّج على القولين في أن الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ وأنه بماذا يرجع؟ فإن قلنا: إنه يرجع بنصف القيمة فالولد بتمامه لها؛ فإنه حدث في ملكها، وجرى الطلاق بعد انفصاله واستقلاله، ونحن على قول القيمة لا نحكم بانفساخ الصداق بالتلف، بل نقضي ببقاء العقد، قالوا: وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد وهي ترجع عليه بنصف مهر المثل، نقلوا عن الشافعي أنه قال: الولد للزوج، ولا حظ لها فيه، فإنا إذا أوجبنا نصف مهر المثل، فقد أوجبناه قبل العقد ونقضْنا الملك استئصالاً.
وفي المسألة قول مخرّج على أن الولد يكون لها؛ فإن الفسخ والانفساخ لا يستند إلى زمان متقدم، بل يقطع الملك في الحال، وقد تقدم حصول المولود على سبب الانفساخ، وقد ذكرنا مثل هذا الاختلاف فيه إذا اشترى الرجل جارية، فولدت أولاداً في يد البائع، ثم ماتت في يده وحكمنا بانفساخ العقد، فالأولاد للبائع أو للمشتري؟ فيه خلاف قدمته، وقياس المذهب أن الأولاد للمشتري، لما نبهنا عليه.
فرع:
8414- قال العراقيون إذا أصدق الرجل جاريةً حبلى، ثم ولدت، وقلنا: إن الولد يثبت في حكم المعاوضة، ولو كان في البيع، لقوبل بقسط من الثمن، فإذا ولدت، وطلقها قبل المسيس، ورضيت برد عين الصداق، فهل للزوج حظُّ في الولد؟ وما حكمه؟ ذكروا فيه وجهين:
أحدهما: له حظ فيه، ولكن زاد الولد بعد الولادة، فتغرم له قيمة نصف الولد يوم الولادة. ووجه هذا بيّن في القياس.
والوجه الثاني- أنه لا حظّ للزوج في الولد؛ فإنه كان حملاً يوم العقد، ولا يمكن معرفة قيمته وهو حمل، ولما انفصل، فهو زيادة في ملكها بعد الإصداق، ولا يمكننا أن نضبط ما بين الحمل والولادة، ولا طريق إلا أن يسقط حظ الزوج من الولد بالكلّية.
وإن فرّعنا على أنه مقابَلٌ بقسطٍ من العوض؛ فإن الصداق ليس يتمحض عوضاً.
وهذا الذي ذكروه، فيه اضطراب، وحاصله: أن الزيادة المتصلة لا حكم لها في البيع، فإذا قلنا: الولد يقابله قسط من الثمن، فانفصل، لم تُغير تلك الزيادة التي حصلت بالولادة حكمَه، والزيادة المتصلة لها حكم في الصداق، ثم عَسُر اعتبارها بين احتساب الحمل وبين انفصاله، فكان ترددهم لذلك.
وإذا قلنا: الحمل لا يقابله قسط من الثمن، فالوجه: القطع بأنه لا حظّ للزوج في الولد، وهو بمثابة ما لو حدث العلوق به بعد العقد.
فصل:
قال الشافعي: "والنخل مُطْلِعة... الفصل".
8415- ذكر الشافعي تفصيل القول فيه إذا أصدق امرأته نخيلاً، فأطلعت، ثم طلقها قبل المسيس، وهذه المسألة كثيرة الأقسام منتشرة الأحكام، والرأيُ أن نمهد في أولها ما يدخل تحت التمهيد، ثم نرسل المسائل ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، ونطلب الاستيعاب جهدنا، ثم نتُبع المسائل بما يضبطها، والله ولي التوفيق.
فنقول: أولاً الطلع قبل التأبير زيادةٌ محضة لا نقصان فيها، وحمل الجارية زيادة من وجه، نقصان من وجه، لما فيه من الإفضاء إلى الغرر، والحمل في البهائم، فيه وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: زيادة من كل وجه؛ فإنه لا يفضي إلى الخطر في غالب الأمر.
والثاني: أنه زيادة ونقصان، كما ذكرنا في الحبالى، فإن كل حامل تلد، فلابد من أن يدخلها نقص في البنية.
8416- فهذه مقدمة ذكرناها، ونعود بعدها إلى رسم المسائل على أقرب ترتيب، فنقول: إذا أصدقها نخيلاً، فأطلعت، وأُبّرت، ثمّ طلقها، فالثمار بعد التأبير في حكم زيادة منفصلة، فلو أراد الزوج أن يكلّف المرأة قطع الثمار، لم يكن له ذلك، فإنها ظهرت، والملكُ ملكها، فلا سبيل إلى إجبارها على قطع ثمارها، ولو قال: أرجع في نصف النخيل ونصف الثمار، لم يكن له ذلك؛ فإن جميع الثمار لها؛ من أجل أنها ظهرت وملكُها كامل في الصداق.
ولو قال الزوج: أرجع في نصف النخيل وأترك ثمارك إلى الجداد، فلا ينفصل الأمر بهذا المقدار؛ فإنها تحتاج إلى تتمة ثمارها بالسقي، ثم فائدة السقي لا تنحصر على الثمار، بل يرجع الحظ الأوفر إلى النخيل؛ فلا سبيل إلى تكليفها السقي، وفائدته ترجع إلى ما يُقدّر راجعاً إلى الزوج بحكم التشطر.
ولو قالت المرأة للزوج المطلق: اصبر حتى آخذ ثماري، ثم ارجع، لم يكن لها أن تكلف الزوج ذلك؛ فإن فيه إلزامَه تأخير حقه وهذا لا سبيل إليه.
ولو قالت: ارجع في نصف النخيل وبقِّ ثماري إلى الجِداد، واسق ما رجع إليك، لم يكن لها ذلك؛ فإن سقيه يرجع فائدته إلى ثمارها، فتكليف الرجل تنمية ثمارها لا وجه له.
فهذه مسائل اتفق الأصحاب عليها. وعلى الناظر في المسألة أن يفهمها ويودعها حفظه مفصلة.
ولو قالت: ارجِع في نصف النخيل، وقد تركتُ عليك نصف الثمار، نُظر، فإن كانت الثمار مؤبّرة؛ فهل يلزم الزوج ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يلزمه قبول الثمار؛ فإنها زوائد في حكم المنفصلة؛ فإلزامه قبولها وتقلُّد مِنَّتِها بعيدٌ.
والثاني: يلزمه؛ فإن الثمار وإن كان لها حكم الانفصال؛ فهي كالمتصلة في هذه المسائل. لعسر الأمر، وتعذر إمضائه مع رعاية الجانبين، فصار تعذر الأمر بمثابة تعذر فصل الزوائد المتصلة.
وإن كانت الثمار بعد طلعها غيرَ مؤبّرة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب: أنها قبل التأبير بمثابة السِّمن، وسائر الزوائد المتصلة، حتى لو تركت على زوجها نصف الطلع، لزمه قبوله.
وذكر العراقيون وصاحب التقريب طريقة أخرى من تنزيل الثمار قبل التأبير منزلتها إذا هي أُبِّرت، حتى تُخرَّجَ المسألةُ على وجهين في أن الزوج هل يُجبر على قبولها إذا سمحت بها؟ وسبب ذلك أن الثمار قبل التأبير تقبل الإفراد بالبيع على رأيٍ ظاهر، خلاف السِّمَنِ وغيرِه من الزوائد المتصلة.
8417- ومما يتعلق بذلك أن الزوج لو قال: أرجع في نصف النخيل وألتزم السقي، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجاب؛ فإنه كفاها مؤونة السقي وهذا هو الذي كنا نحاذره في إلزامها بسقي نخيل الغير، والثاني: لا يلزمها إجابته؛ فإنه لا يجد بداً من مداخلة البستان في سقي النخيل وتعهدها، وقد لا ترضى المرأة به، فإن لم نوجب إجابته إلى ما يلتمس من ذلك، فلا كلام، وإن أوجبنا إجابته، فالتزامه السقي وعْدٌ منه، إن وفى به، استقر الأمر، وإن بدا له، فلا معترض، ولكن يبين أن رجوعه في نصف النخيل باطل.
فتبين مما ذكرناه أن هذا الرجوعَ في حكم الموقوف على ما يتبين من الوفاء بالسقي أو الإخلاف في الموعد.
وألحق الأئمة بهذه الصورة ما لو أصدقها جارية، فولدت في يدها ولداً مملوكاً، واقتضى الحكم أن يكون الولد لها، فقال الزوج: أرجع بالجارية، وأمنعها من إرضاع المولود، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً عَظيماً بالولد. و لو قال: أرجع في نصف الجارية وأرضى أن تُرضع الولد؛ فهل يجب إسعافه؟ فعلى الوجهين المذكورين في النخيل والتزام سقيها، ونصُّ الشافعي في مسألة الولد يدل على أن الرجل لا يجاب بما يعد؛ فإنه لا يلزمه الوفاء بالموعود.
8418- ومما نذكره مرسلاً، أن الزوج والزوجة لو تراضيا في النخيل على أن يؤخر الزوج حقَّه ولا يتعرض له إلى أوان الجِداد، ثم إذ ذاك يطلب حقه من نصف النخيل، فإذا وقع التراضي على هذا الوجه، لم نعترض عليهما، ولم نتعرض لهما، ولكن ليس يلزمهما الوفاء بما تراضيا عليه، فإن الزوج رضي بتأخر حقه، وتأجيل ما لا يلزم فيه الأجل، فله الرجوع عما قال.
ولو أصر الرجل على موعده، فأرادت المرأة الرجوع، كان لها ذلك؛ لأنها تحتاج إلى السقي والتعهد، ثم يرجع النفع إلى النخيل، ومآل الأمر مصير نصف النخيل إلى الزوج، فلها أن ترجع عن رضاها بذلك، فإنهما لم يُذكر بينهما في الصورة التي ذكرناها إلا تواعداً على تأخير الحق غيرَ لازم، كما ذكرنا.
ولو تراضيا على أن يرجع الزوج إلى الملك في نصف النخيل عاجلاً، ويترك الثمار لها إلى وقت الجِداد، فإذا ثبت تراضيهما على هذا الوجه، لزم الوفاء به؛ فإن بدا للزوج، وقال: أحتاج إلى سقي النخيل، والنفعُ يرجع إلى ثمارها، قلنا: قد رضيت، فإن شئت فاترك السقي، ونحن حملنا رضاك على التزام الضرر، إن كان ضرر.
ولو قالت المرأة: رجعت عن رضاي، فإني أحتاج إلى السقي لأجل الثمار، والنفع يرجع إلى النخيل، قلنا: اتركي السقي، فإن كان يلحقك ضرر، فقد رضيتِ به.
ويخرج منه أن كل واحد منهما لا يرجع عما رضي به، ولا يجب على واحد منهما السقي، فمن أراده، لم يمنع منه.
فهذا بيان هذه المسائل المرسلة، ولم نذكر بعدُ عند تنازعهما ما نحملهما عليه؛ لأن ذلك يبين آخراً.
8419- ونحن نذكر نوعاً من الضبط، ثم نختم المسألة بما فيه تمام البيان، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: هذه المسائل تجرى على ثلاثة أصناف: أحدها: مفروض فيما يقوله الرجل، والمرأة تأباه.
والثاني: فيما تقوله المرأة، والرجل يأباه.
والثالث: فيما يتراضيان عليه.
فأما ما يقوله؛ فمنه أن يقول: اقطعي الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل مع نصف الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل، ولا ألتزم السقي والتعهد، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه لا يجاب إلى ذلك، ولا تكلف المرأة الرضا به، لما قدمنا ذكره من تضررها بمداخلته. فهذا بيان ما يذكره الزوج مبتدئاً.
فأما ما تذكره المرأة والزوج يأباه، فمن ذلك أن تقول: أخِّر حقك إلى الجِداد، فلا تجاب؛ فإن حقَّ الزوج معجّل، ولو قالت: ارجِعْ في نصف الشجر، وثمرتي تبقى، فالرجل لا يجيبها إلى مرادها، فإن الثمار تمتص من رطوبات الأشجار، إن لم تُسق، فإن سُقيت، فالنفع يرجع بعضَ الرجوع إلى الثمار، ولو أنها ابتدرت وجدَّت الثمرة عاجلاً، فحق الزوج يثبت في نصف العين إذا لم تُنْتَقَص الأشجار بالثمار ولم تُكسر سَعفها وأغصانها.
ولو قالت: خذ نصف النخيل ونصف الثمار، فهل يجبر الزوج على قبول ذلك؟ فيه وجهان: وذكر تفصيل في المؤبرة وغير المؤبرة، فهذا بيان قسمين.
القسم الثالث: فيما يتراضيان عليه، وفيه مسالتان: إحداهما- أن يتراضيا على أن يسقي الزوج حتى تُجدّ الثمرة، فهذا تواعد، ولا يجب على واحد منهما الوفاء بما وعد. والمسالة الثانية- أن يتراضيا على أن يختار الزوج نصف النخيل في الحال، وتبقى الثمرة إلى الجداد، فعلى كل واحد منهما ضرار من وجه، وقد بيّنا ابتداء كل واحد منهما بذكر هذا القسم، وأوضحنا أنه لا يُجاب إلى مُلْتَمَسِه، فإذا وقع التراضي منهما، فقد رضي كل واحد بما يناله من الضرر في هذا القسم. وليس ما وقع التراضي به تواعداً على تأخير حق، ولكن مضمون ما تراضيا عليه تعجيل حق لزم.
فهذا بيان تزاحم الأقسام.
وليعلم الناظر أنا لم نغادر من البيان شيئاً ولكن طباع هذا الفصل تقتضي أن يكرره الناظر مراراً.
ثم وراء ذلك المقصودُ؛ فإنا ذكرنا ابتداء كل واحد منهما، وأوضحنا ما يُجاب إليه وما لا يُجاب، ثم ذكرنا تراضيهما.
8420- والمقصود الأظهر أن نبيّن ما يجب تحصيله إذا ارتفعا إلى مجلس الحكم متنازِعَين، فلم تسمح تيك بالثمار، وروجعنا في حق الزوج، فنقول: حقه الناجز نصف القيمة؛ فإن في الرجوع إلى العين من العُسر ما نبّهنا عليه، ولا سبيل إلى تأخير حق الزوج، وإن عادت فرضيت ببدل المهر، ففيه الكلام السابق. وإن رضيت بمداخلته، ففيه اضطراب السقي. وإن قال الزوج: رضيت بتأخير حقي، ففيه اضطراب السقي، وإن تراضيا، وقعنا في قسم التراضي والتزام نصف القيمة، هذا هو اللائق بمحل التنازع لا غير.
8421- ثم وراء نجاز هذا أمور مرسلة يجب التنبه لها، منها: أنا وإن كنا نفرّع على أن نفس الطلاق يشطر الصداق من غير احتياج إلى اختيار التملك، فذاك فيه إذا لم يعترض مانعٌ ما. أما إذا اعترض في الصداق أمثالُ ما ذكرناه من فرض لحوق الضرر بالجانبين، فجريان الملك في عين الصداق أو/الرجوع إلى القيمة يتوقف على ما سبق التواطؤ عليه، أو يُفرض الإرهاقُ إليه عند التنازع. وهذا وإن كان بيِّناً، فلا يضير التنبيه له.
8422- ومما نرى ذكره أنا أجرينا ذكر الثمار، وهي طلعٌ حالة الطلاق، ولم تؤبّر، وأدرنا فيه التفاصيل والأقسام، وقد ذكرنا في كتاب التفليس أن النخيل إذا أطلعت في يد المشتري، ثم استمر الحجر-والثمار غير مؤبرة- فقد نرى رجوعها إلى البائع إذا آثر فسخ البيع، وقد يجرى مثل هذا في الحمل أيضاً إذا حدث، وكان الحمل قائماً وقت الرجوع.
وهذا لا يجري في الصداق؛ والسبب فيه أن الطلع والحمل لا ينحطان عن زيادة متصلة، وقد ذكرنا أن الزيادة المتصلة تُثبت للمرأة حق الاستسماك بعين الصداق، والزيادة المتصلة لا أثر لها في المبيع الذي يرجع فيه البائع، فإنا جعلنا الطلع والحمل كزيادة متصلة، تعلق بهما رجوع البائع، ولا يتحقق مثل هذا في حق الزوج.
8423- ومما نذكره في اختتام الفصل: أنه لو أصدق امراته نوعاً آخر من الأشجار سوى النخيل، فانعقد نَوْرُها في يدها، فظهور النَّوْر ينزل منزلة بدوّ الطلع، وانعقادُ الثمار مع تناثر النَّور ينزل منزلة التأبير.
وقد بان الغرضُ في كل واحد من الأصلين، وهذا نجاز الفصل.
فصل:
قال الشافعي: "وكذلك الأرض تزرعها أو تغرسها أو تحرثها... إلى آخره".
رأى المزني هذه الأمور مجتمعة في كلام الشافعي، ونقله على إثر مسألة الطلع، وظن أن الشافعي يُجري الغراس والزرع والحراثة مجرى الطلع في كل تفصيل، وأخذ يعترض ويبيّن أن الزراعة في الأرض نقصٌ من جميع الوجوه، في كلام طويل له، وكلامه في بيان تفاوت الزرع والغراس والحراثة صحيح، ولكن ظنّه أن الشافعي أجراها مجرى الطلع خطأ، وفي نظم كلام الشافعي تعقيدٌ لا يطلع عليه إلا من جمع إلى فهمه أوفر حظ من اللغة، والشافعي ذكر فيما تقدم من المسائل ما يكون نقصاً محضاً، وذكر ما يكون زيادةً من كل وجه، وأبان الحكم فيما يكون زيادة من وجهٍ ونقصاناً من وجه، ثم ذكر الزراعة والغراسة والحراثة عطفاً على الأقسام المختلفة، ولم يعطفها على الطلع خاصة، ونحن نذكر الآن التفصيل في المسائل التي جمعها المزني في الفصل.
8424- أما الزرع فنقصانٌ في الأرض من كل وجه، فلا نكلف الزوج الرضا بنصف الأرض مزروعة، وله نصف القيمة والأرض بيضاء، فإن رضي بها مزروعة، لزم إجابته، وليس كما قدمناه في الثمار؛ من جهة أن الزوج إذا رضي بنصف النخيل وتَبْقِيَةِ الثمار للمرأة، فالسقي الذي يُنمِّي الثمار يزيد في الأشجار، والسقي الذي ينمي الزرع لا ينفع الأرض، فإذا رضي الزوج بنصف الأرض، وجبت إجابته؛ فإن الأرض لا تزداد بتعهد الزرع.
فعلى هذا لو تبرعت على الزوج بنصف الزرع-إذا كان لا يرضى بنصف الأرض لمكان الزرع- فقد ذكرنا وجهين في أنها لو تبرعت بنصف الثمار المؤبّرة في مسألة النخيل، فهل يُجبر الزوج على قبوله، والزرع في حكم الثمار المؤبرة؟ فتخرج المسألة على وجهين في إجبار الزوج على القبول.
وهذا الذي ذكره صاحب التقريب غلط مأخوذ عليه؛ من جهة أن الثمار زيادة لا تنقص النخيل، والزرعُ وإن كان زيادة، فالأرض منتقِصةٌ به، وقد ذكرنا أنه إذا اجتمعت زيادةٌ ونقصانٌ، لم يملك واحد منهما إجبار صاحبه.
ومما يتعلق بالزرع: أن الزوج إذا طلّقها، فابتدرت واقتلعت الزرع؛ فالغالب أن النقص يبقى في الأرض إلى مدة؛ فإن الأرض فيما ذكره الحرّاثون تضعف بالزراعة، ولذلك يعسُر موالاة الزراعة في كل سنة، فإن فرض زرع لا يُعقب نقصاً في الأرض، فإذا ابتدرت وقلعت الزرع؛ فحق الزوج انحَصَر في نصف الأرض، فإن أعقب الزرعُ نقصاناً، فالزوج على خِيَرته، فإن رضي بقبول نصف الأرض مزروعة، فعليه أن يُبقي الزرع فيها بالأجرة؛ لأنها زرعت-لما زرعت- ملكَها الخالص. هذا قولنا في الزرع.
8425- أما الغراس؛ فإنه بمثابة الزرع في جميع ما ذكرنا؛ فإن الأرض مفردةً ناقصةُ القيمة، والغرس لا يزيدها شيئاً، فإن بذلت نصف الغراس، فهو كما لو بذلت نصف الزرع، فلا معنى للإعادة، فهو كالزرع في كل وجه.
8426- وأما الحرث فإن كانت الأرض معدّة للزراعة، فهو زيادة متصلة من كل وجه، ثم لا يخفى حكم الزيادة، وإن كانت مهيّأة للبناء، فهو نقصان، لأنه لا يتأتى البناء على الأرض المحروثة إلا ببذل مؤونة في تنضيدها، ولا معنى للإطناب بعد وضوح المقصد.
فصل:
قال: "ولو ولدت الأمة في يديه أو نُتجت الماشية... إلى آخره".
8427- إذا أصدق الرجل امرأته جاريةً حاملاً، أو شاة ماخضاً، فهذا يبنى على أن الحمل هل يقابله قسط من العوض في البيع؟ وفيه اختلاف مذكور في موضعه. فإن قلنا: للحمل قسط، فهو كما لو أصدقها عَيْنَين، فإذا طلقها قبل الدخول يرجع في نصف الأم، ولا يخلص الولد لها.
ثم يتصل بذلك أن الولد إذا انفصل، فهذا في حكم زيادة متصلة، والجارية قد تُعيّبها الولادة، فيقع التفصيل في عيبٍ بأحد العينين، وزيادة العين الثانية. وقد تمهّد التفصيل في القاعدتين.
والذي نزيده الآية: أن من أصحابنا من جعل نفس انفصال الولد زيادة؛ فإنه كذلك؛ إذ التفاوت بين الجنين وبين الولد المنفصل أكثر من التفاوت بين العبد السمين والهزيل، وهذا في ظاهره إخالة وإشعار بالفقه، ولكنه يغمض بالتفريع؛ فإنا إذا جعلنا الولادة زيادة، فيثبت للمرأة حق الاستمساك بالولد، ثم بناؤنا على أن الزوج يرجع في قسط من الولد، فكيف يقدّر رجوعه في نصف قيمة الولد، وهو مجتنٌّ، والجنين لا يتقوَّمُ في البطن؟ فأول إمكان تقويمه، إذا انفصل. وإذا أثبتنا للزوج نصفَ قيمته منفصلاً، ففيه نَقْضُ المصير إلى أن الولد زيادة، وإذا جاز أن تغرَمَ له نصف قيمة المولود حالة الانفصال، فينبغي أن نُسلِّم إليه نصف المولود. وإن قال هذا القائل: تُقوم الجارية حاملاً، ونصرف إليه نصفَ قيمتها، وإذا فعلنا ذلك، فقد أشركناه في الحمل، فهذا محال؛ فإن التفريع على أن الحمل يقابله قسط من العوض، كما يقابل أحدَ العبدين قسط من الثمن إذا اشتمل العقد على عبدين.
والذي يوضح ذلك: أنا إذا ألزمنا المغرور بحرية زوجته قيمة الولد، اعتبرنا حالة الانفصال. وإن كان تفويت الرق مستنداً إلى حالة الاختيار؛ فالصحيح إذاً أن الولد إذا انفصل، وجرى الطلاق بعد انفصاله-والتفريع على أنه يُقابَل بقسطٍ من العوض- فالزوج يرجع في نصف الولد. نعم، إذا مضت أيام من الانفصال، والصبيّ ينمو فيها، لا محالة، فيتصل الكلام بالزيادة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا قلنا: للولد قسط.
وإن قلنا لا قسط له من العوض، فإذا ولدت، ثم طَلّق الزوج، فحكمها حكم ما لو كانت حائلاً يوم الإصداق، فحبلت في يد الزوج وولدت، فلا حظ للزوج في الولد، ويقع النظر في الأم، وقد انتقصت بالولادة.
ثم الفرق بين أن يجري ذلك في يده أو يدها، قد مضى مستقصًى، ونحن بنينا كتابنا هذا على رفض المعادات جهدنا، سيّما إذا قرب العهد، ونعيد البسط لمواقع الإشكال.
8428- وقد يتصل بما انتهينا إليه أن نقصان الولادة في يد الزوج مضمون عليه، كما بيّنا أثر ذلك، وما يحصل من النقص في يدها يُثبت للزوج حق الخيار في الرجوع من العين إلى القيمة.
فلو كانت حاملاً في يد الزوج، ثم ولدت في يد الزوجة، وانتقصت بالولادة، فهذا نقصان حدث في يدها، ولكنه مترتب على سبب كان في يد الزوج؛ فإن لكل جنين اتصال، ولكل حاملةٍ تمام، فيجب بناء هذا على المبيع إذا جُرح في يد البائع، ثم سرت الجراحة في يد المشتري، فقد ظهر الاختلاف في ذلك: من أصحابنا من جعل السراية من ضمان البائع؛ لأن سببها الجراحة، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج، وإن حدث في يدها؛ لأن الحمل كان موجوداً في يده.
ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري؛ لأنه حدث في يده، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها.
وقد بان حكم ضمانه وضمانها وإبراءُ كل واحد من الضمانين.
8429- ثم إن المزني اختار من القول في كيفية الضمان، أن الصداق مضمون بالعقد، واحتج بنصوص الشافعي في مسائلَ، وأخذ يُعدّدها، ونحن نتبع ما أورد، ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، مع اجتناب التكرير جهدَنا.
فمما استشهد به: مسألة من مسائل الصداق، ذكرها الشافعي في كتاب الخلع- وهي: أن الزوج إذا أصدق امرأته داراً، فاحترقت، قال الشافعي في جواب المسألة: المرأةُ بالخيار بين أن تفسخ وترجع بمهر المثل، وبين أن ترضى بالعَرْصَة وتجيزَها بحصتها من المهر.
وهذه المسألة لها مقدمة مذكورة في الكتب، ونحن نذكر منها قدر الحاجة، ثم نرمز إلى تخريج المسألة على الأصول وتنزيلها عليها، فنقول: إذا اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما في يد البائع، فالقول الأصح: أن العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف، والقاعدةُ أن العقد إذا ورد على ما يقبل العقد وعلى ما لا يقبله، وبطل فيما لا يقبله، ففي بطلانه فيما يقبله القولان المعروفان. ثم إن صححنا العقد، فالخيار معروف، فإن اختار المشتري الإجازة؛ فإنه يجيز العقد فيما قَبِل العقدُ بجميع الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين.
وإذا تلف أحد العبدين، فالأظهر أن الانفساخ في التالف لا يوجب الانفساخ في القائم؛ فإن العقد قد ورد عليهما، وكان سبب ارتفاعه في التالف تلفَه، ثم إذا فُرضت الإجازة، فالمذهب: أن العقد يجاز في الباقي بقسطٍ، بخلاف ما ذكرناه في أول العقد. والفرق أن الثمن في أول العقد لم يقابل أحدهما، وقد قابل الثمن العبدين، ويستحيل إذا تلف أحدهما أن يقابل بتمامه الثاني، على مناقضة المقابلة التي جرت، وهذا مذكور في تفريق الصفقة، فهذا أصلٌ جدّدنا العهد به.
ومن الأصول أن أطراف العبد أوصافٌ، ولا يثبت لها حكم الانفراد في المقابلة بالعوض، وإذا اشترى الرجل داراً، فانهدمت، نظر: فإن كان النقضُ قائماً؛ فالذي فات، أوصافٌ لا تقابل بقسطٍ من العوض، وإن فات النقضُ باحتراق أو جرف سيل، وبقيت العَرْصَةُ بيضاءَ، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أعيان النقض، فمنهم من أجراها مجرى أطراف العبد، حتى تقدّر أوصافَ العبد، ومنهم من أجراها مجرى عبدٍ مع عبدٍ إذا فرض التلف. في أحدهما، وقد تقدم تمهيد ذلك في المعاملات.
ونحن نرجع بعد هذا إلى غرض المسألة، فإذا أصدق الرجل امرأته داراً فانهدمت، نُظر: فإن فات النظم والتآلف، والنقضُ قائم؛ فلها الخيار إذا جرى ذلك في يد الزوج. ثم القول في الفسخ والإجازة، وما يقع الرجوع به من مهر المثل والقيمة على ما تفصّل في نقصان الصداق بالآفة السماوية.
وإن فات عين النقض، خرج هذا على أن النقض صفةٌ أو عين مقصودة، فهو كما إذا أصدقها عبداً، فسقطت أطرافه.
ومحل تعلق المزني أنه نقل عن الشافعي رجوعها إلى مهر المثل، وطريق الجواب في مثل هذا بيّن.
فصل:
قال: "ولو جعل ثمر النخل في قواريرَ وجعل عليها صَقَراً من صقَر نخلها... إلى آخره".
الصَّقَر قُطارة الرطب من غير أن يعرض على النار، فإن عُرض على النار، فهو دِبْس، وإنما صور الشافعي هذه المسألة على عادة الحجازيين، فإنهم يجتنون الرطب، ويتركونه في قوارير ويصبّون عليه من القَطْر استبقاءً لرطوبة الرطب، وقد يسمونه كذلك.
فصورة المسألة: أنه إذا أصدقها نخلة فجعل على رطبها صقراً، ويفضي الأمر إلى التفصيل في انتهاء التغير إلى التعيّب، وفي نقيض ذلك.
واختلف أصحابنا في وضع المسألة وتصويرها. فمنهم من قال: صورتها إذا كانت الثمرة صداقاً، وكانت كائنةً حالة الإصداق؛ فإن أصدقها نخلة عليها ثمرةٌ مؤبرة أو غير مؤبرة، ثم فعل بالثمرة وصقْرها ما وصفناه. وإنما حمل هؤلاء النصَّ على هذه الصورة؛ لأن الشافعي أثبت لها الخيارَ لما يلحق الثمرةَ وعصيرها من التغير.
وهذا يتضمن كونها صداقاً، فتفريع هذه المسألة عند هذا القائل أن يقول: إذا كانت الثمرة وصقرها موجودةً حالة العقد ووقعت صداقاً، فلا يخلو، إما ألا ينتقص الرطب والصقر، فإن كان ذلك، فلا خيار لها، والزوج كفاها شغل الاجتناء، وتحمل المؤنة. وإن انتقص، فلا يخلو إما أن يكون ذلك انتقاص صفةٍ أو انتقاص عَيْن. فإن كان نقصانَ صفةٍ، وذلك بأن كان العصير يساوي ثلاثة دراهم، فعاد إلى درهمين، والمكيلة بحالها لم تنتقص، فلها الخيار. فإن فسخت، لم يخفَ تفريعُها على اختلاف الأحوال، فالمسألة مفروضة في نقصٍ ثبت بسبب فعلٍ من الزوج، وهو بمثابة عيب لحق المبيع بجناية البائع، ولسنا لإعادة تلك الفصول. فإن أجازت العقد، فتخريج أرش النقصان على قولي اليد والعقد كما مضى.
8430- وإن كان النقصان نقصانَ عين- مثل أن كان أخذ من الصقر مكيلتين، فشربت الأرطاب مكيلةً، وبقي مكيلةٌ، فحكم ذلك حكمُ ما لو أصدقها عبدين، ثم أتلف الزوجُ أحدَهما. ولا يخفى تفريع ذلك.
ثم يتصل الكلام: إذا رأينا-على قول اليد- لها الرجوع إلى بدل الفائت، لا إلى بدل البضع، فالنظر في المِثْل والقيمة، والقول في أن الرطب هل هو من ذوات الأمثال، وكذلك الصقر إذا طبخ ومازجه ماء، أو كان صِرْفاً، كل ذلك مما تقدم.
وهذه المسألة وأمثالها يطولها المتكلّفون بإعادة الأصول، ثم لا يعتنون بالغوص على جليّات المسائل فضلاً عن مُعوصاتها.
وقد يطرأ في أمثال هذه المسألة ما يجب التنبه له، فقد تزلّ عنه القريحة، وذلك أن الرطب إذا تشرب بعض الصقر، وصار مستهلكاً فيه وزناً، ولكن ازدادت قيمةُ الرطب، فما نقص من مكيلة الصقر مضمون، وإن ازدادت قيمة الرطب بسبب ما تشرب من الصقر، وهذا بمثابة ما لو أصدق امرأته قضيماً ودابة، ثم عُلفت الدابةُ القضيمَ، فانتفعت الدابّة وسمنت، فتلك الزيادة حق المرأة، والقضيم مضمون على الزوج.
8431- ومن أصحابنا من قال صورة المسألة فيه إذا لم تكن للمرأة صداقاً، وما كانت موجودة حالة العقد، بل كان أصدقها نخلة، ثم أثمرت في يده، فالثمرة تحدث ملكاً لها. وليست من جملة الصداق. ونص الشافعي مصرِّحٌ بهذا في الكبير.
فإذا كانت الصورة مفروضة على هذا الوجه، فليست المسألة من مسائل الصداق، ولكنها من مسائل الغصوب، فهو كما لو غصب رجل رطباً وعصيراً، وصب العصير على الرطب، فالقول في ذلك ينقسم وينفصل، وقد يتعفن الرطب تعفناً سارياً غير متناهي العفن، وقد مضى ذلك مستقصًى في كتاب الغصوب. فلا معنى للخوض فيه.
وقد يقع الفرْضُ فيه إذا صب على التمر الذي ليس بصداق صقْراً من عند نفسه، فيكون كنظائره في الغصوب، مثل أن يغصب ثوباً فيصبغه بصبغ من عند نفسه، وهو من أصول الغصوب، ولست أوثر أن أذكر في هذه المسائل إلا مراسمها، ولا ينقطع ترتيب فصول السواد، وإلا فلا معنى لإعادة الأصول. وقد تمس الحاجة إلى إعادة أطرافٍ منها، والمقصودُ غيرُها، أما إعادتها بأعيانها، فلا يليق بغرضنا.
8432- ومما ذكره الأصحاب أن الثمرة لو كانت صداقاً، فصب عليها الزوج من صقْر نفسه، وجعلها في قارورة، فإن لم تنتقص، فلا خيار لها، فالزوج ينزع صقره. وإن انتقص الثمرة، فهذه مسألة نقصان الصداق بجناية الزوج، وقد مضى تفصيله. وإن كانت الثمرة تنتقص لو نزع الصقْر منها، ولا نقص مع الصقر، أو كانت تنتقص لو أزيلت مع الصقر عن القوارير؛ فقال الزوج: تركت صقري والقوارير على الزوجة، فهذا بمثابة مسألة النَّعل، وفيها التفصيل المفرد في البيع، والظاهر أن المرأة تجبر على القبول، وكذلك القول في مسألة النّعل، ثم لو فُرّغت القارورة وزايل النعلُ، فهل يستردهما من كان مالكهما؟ فيه وجهان. والخلاف راجع إلى أن التَّرك تمليكٌ أو ليس بتمليك. ويمكن أن يقال: إن لم نجعله تمليكاً، فلا يمتنع الإجبار عليه، وإن جعلناه تمليكاً؛ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نُجبرها عليه؛ لأنه تبعٌ، ولا مِنّةَ فيه؛ إذ للزوج غرض ظاهر سوى الامتنان. والوجه الثاني- أنا لا نجبرها؛ لأن الإجبار على التمليك-وهي مطلقة- بعيد.
فصل:
قال: "وكل ما أصيب في يده بفعله أو فعل غيره... إلى آخره".
8433- نصُّ الشافعي في هذا الفصل يدل على أن الصداق مضمون ضمان المغصوب؛ فأنه قال: "فهو كالغاصب". ثم استثنى مسألة، وهي: إذا كان الصداق أَمةً فوطئها، وادعى الجهالة، وقال: كنت أظن أنها لا تَملِك قبل الدخول إلا النصف، فيُصدّق في دعوى الجهالة، وكيف لا وقد صار إلى ذلك مالك، ثم لا يخفى حكم ثبوت النسب، أو فرض علوق وحكم الحرية، ولا تثبت أُميَّة الولد في الحال، ولو ملكها يوماً من الدهر؛ ففي ثبوت أمومة الولد قولان مشهوران.
ومن غصب جارية، وأصابها، وادّعى الجهالة، لم يصدق. وقد سبق صدرٌ صالح في دعوى الجهالة حيث تُحتمل وحيث يبعد احتمالها، فلا حاجة إلى شيء مما ذكرناه.
فصل:
قال: "ولو أصدقها شقصاً من دارٍ ففيه الشفعة... إلى آخره".
8434- هذا من أصول الشفعة، فالشقص المذكور صداقاً، أو بدلاً في الخلع، أو في المصالحة عن دم العمد مستحَقٌ بالشفعة، فيأخذه الشفيع بمهر المثل في النكاح والخلع، وببدل الدم من الصلح عن الدم.
وإذا ذُكر الشقص صداقاً، وفُرض الطلاق، ففي المسألة ثلاث صور: إحداها- أن يأخذ الشفيع، ثم يُفرض الطلاق؛ فهو كما لو باعت الشقص، ثم طلقها الزوج، فالرجوع بنصف القيمة.
وإن طلق الزوج واتصل به طلب الشفيع، فحضرا معاً؛ فهذه المسألة المعروفة بين المروزي وابن الحداد تعارضها مسألة الإفلاس، وتردد الشقص بين رجوع البائع وأخذ الشفيع، فلتطلب هذه المسألة في موضعها.
والمسألة الثالثة: أن يجرى الطلاق والشفيع غائب، ثم يحضر ويبتدىء الطلب، فإن قدمنا الزوج في المسألة الأولى على الشفيع، فلا شك في تقدمه في الأخيرة، وإن قدمنا الشفيع إذا جاء والزوج معاً، ووقع الطلاق، وطلب الشفعة على اجتماع، فإذا تقدم الطلاق على طلب الشفيع؛ ففي المسألة وجهان.
وفصَل بعض أصحابنا بين أن يأخذ الزوج، ثم يجيء الشفيع، وبين ألا يأخذ، وقال: إذا أخذه لم ينقض عليه.
فانتظم في المسألة الأخيرة ثلاثة أوجه بعد الترتيب على الثانية.
والفصلُ بين أن يأخذه قبل مجيء الشفيع وبين ألا يأخذ- التفاتٌ على أصلٍ في الشفعة، وهو أن الشفيع إذا لم يشعر بالشفعة حتى باع الشقص الذي هو شريك به؛ ففي بطلان حقه من الشفعة قولان، والفرق بين أن يأخذ وبين ألا يأخذ لا حاصل له، إذا كان التفريع على الظاهر في أن نفس الطلاق يشطّر الصداق، فإن كان وجه الفصل تفريعاً على أن ملك الزوج يتوقف على اختيار التملك، فقد يتجه ذلك.
فصل:
قال المزني: "اختلف قوله في الرجل يتزوجها بعبد يساوي ألفاً على إن زادته ألفاً... إلى آخره".
8435- إذا جمع بين النكاح والبيع مثل أن يقول: "زوجتك ابنتي هذه وبعت منك هذا العبد بألف درهم، وقيمة العبد ألف"، فقال: "تزوجتها واشتريت العبد على هذا". أو قال: "قبلت النكاح والعقدَ في العبد " والغرض ألا يُغفلا لفظ النكاح والتزويج. وقد يكون العبد من جانب الزوج، فيقول: "تزوجت ابنتك على هذا العبد، على أن تعطيني ألفاً"، ومهر المثل ألف، وقيمة العبد ألف، فنصف العبد المبيعُ والنصف صداق، فهذه صفقة جمعت عقدين مختلفي الحكم، وللشافعي قولان، أظهرهما- الصحة. والقول الثاني- أن الصفقة لا تصح.
وقد ذكرنا هذا في ترتيب تفريق الصفقة، فنذكر ما يليق من هذا الأصل بالنكاح والصداق.
فإن قلنا: الصفقة صحيحة، فلا يخلو، إما أن يكون العبد من جانبه وردُّ الألف من جانبها، أو يكون الألف من جانبه والعبد من جانبها. فإن كان العبد من جانبه، فالنصف منه صداق، والنصف مبيع بالألف، فلو اطلعت على عيب به، وفسخت، استردت الألف الذي كان ثمناً لنصف العبد، وترجع بسبب الصداق بمهر المثل في قول، وبنصف قيمة العبد في قول- كما سبق. ولو أرادت أن ترد النصف بالعبد-إما المبيع وإما الصداق- ففي المسألة قولان، كالقولين في العبدين إذا اشتراهما ووجد بأحدهما عيباً، فأراد ردَّه، وإمساكَ الآخر. ووجه الشبه أن العقد هناك وإن اتحد، فقد تعدد المعقود عليه، وهاهنا اتحد العبد وتعددت الجهة والعقد.
ولو جرى فسخ قبل المسيس يوجب رد الصداق، يرتد نصف العبد إلى الزوج، فإنه كل الصداق-والفرض في فسخٍ يوجب رد جميع الصداق- ويبقى النصف الآخر من العبد بحكم الشراء.
ولو طلقها قبل الدخول، رجع ربع العبد إلى الزوج، وبقي ثلاثة أرباعه- الربع منه بحكم الصداق، والنصف بحكم الشراء، ولو فرض التفريق على الوجه الآخر، لم يخف تفريع المسألة، وقصاراها التَّدْوارُ على التفريع وما ترجع المرأة به.
فصل:
قال: "ولو أصدقها عبداً فدبّرته... إلى آخره".
8436- إذا دبّرت المرأة عبد الصداق، وطلقها زوجها قبل المسيس؛ فالذي نقله المزني: أنه لا يرتد إلى الزوج نصف العبد، وأن رجوعه إلى نصف القيمة، فاقتضى النص كونَ التدبير مانعاً من الرجوع إلى الزوج، واختار المزني أن النصف من العبد يرتد إلى الزوج وينتقض الترتيب فيه.
وفي المسألة طرق للأصحاب، منهم من قال: القول في ذلك على قول الشافعي: إن التدبير وصية، أو تعليق عتق بصفة؟ فإن قلنا: التدبير وصية، يُشَطَّر الملك في العبد بالطلاق، كما لو أوصت بأن يعتق ذلك العبد عنها بعد الموت، ثم طلقها الزوج؛ فالوصية تنتقض في النصف، ويرتد إلى الزوج ملكاً. وإن قلنا: التدبير تعليق، فالتعليق لا يقبل الرجوع، بخلاف الوصية، فكان مانعاً من الارتداد إلى الزوج بلزومه.
وهذا غير سديد؛ من قبل أن التعليق بالصفة لا يمنع إزالة الملك، وللمعلِّق أن يبيع العبد الذي علق عتقه بالصفة، كما له أن يبيع العبد الموصى بعتقه، فافتراق التعليق والوصية في أنه يتصور الرجوع عن الوصية صريحاً، ولا يصح الرجوع عن التعليق صريحاً، لا يوجب فرقاً بينهما في جواز البيع والهبة وغيرهما من جهات التصرفات التي تستدعي الملك التام.
ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الملك التام.
ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الزوج قولاً واحداً، سواء حكمنا بأن التدبير وصية، أو قلنا: إنه تعليق عتق بصفة؛ وذلك لأنها إذا دبّرت وقد قصدت التصرف بعقد عتاقة، وعلّقت ذلك العقدَ بالعبد، فينبغي ألا ينتقض قصدها؟ فإنا إذا كنا نمنع الزوج من الرجوع إلى نصف الصداق إذا زاد أدنى زيادة، مع علمنا بأن الزيادة المتصلة لا أثر لها في الفسوخ والعقود والردود، فتعلُّقُ غرضها بعقد العَتاقة لا ينقص عن الزيادة المتصلة.
ثم من سلك هذه الطريقة، إذا قيل لهم: لو لم تدبره، ولكنها صرحت بالوصية بعتقه، أو علقت عتق عبد الصداق بصفةٍ، فماذا تقولون؟ فقد اختلف جواب هؤلاء. فقال قائلون: التصريح بالوصية وتعليق العتق يمنعان مع التدبير. وقال آخرون: المنع يختص بالتدبير؛ فإنا وإن أحللناه محل الوصية أو محل التعليق، فلسنا ننكر أن التدبير عقدُ عتاقة في الشرع، وبه يتحقق تجرّد القصد إلى التقرّب.
وأما التعليق بالصفات؛ فإنه من أحكام المعاملات، والوصية لا يُقْدم عليها الموصي إلا وهو يثبت لنفسه مستدركَ الرجوع.
فإن قيل: فالتدبير مع ذلك يقبل الرجوعَ في قولٍ- والإبطالَ بإزالة الملك في قول؟ قلنا: إنما يَقْبله ممن أنشأه، فأما إبطاله عليها لحق الزوج، فهو بعيد.
ومن اشترى عبداً بثوب، وقبض العبد ودبّره، ثم ردّ صاحبه الثوب عليه بعيب قديم، فالمذهب الأصح: أن العبد يرتد، والتدبير ينتقض، قولاً واحداً، لقوة الفسخ واستيلاء سلطانه. ولذلك لا تؤثر الزيادة المتصلة في منع الارتداد بالفسخ، بخلاف الارتداد إلى الزوج بحكم الطلاق، أو بما يحل محل الطلاق مما يوجب التشطير قبل المسيس.
وأبعد بعض الأصحاب فجعل التدبير مانعاً من الارتداد بالفسخ، كما يكون مانعاً من التشطير بالطلاق، وهذا بعيد غير معتد به.
ومن أصحابنا من قطع بأن التدبير في عبد الصداق لا يمنع تشطيره، وهذا هو القياس الظاهر، ولكنه مخالف للنص، ويقبح ترك النص الصريح، والوجه: إثباته قطعا أو قولاً، وتوجيهه بما يمكن، والله أعلم.
8437- والذي جرى في المسالة بعد طرق الأصحاب سببان:
أحدهما: التردد في أن التصريح بالوصية والتعليق هل ينزل منزلة التدبير؟
والثاني: أن التدبير إذا رأيناه مانعاً من التشطير، فقد يمنع من الارتداد في الفسوخ، ومن الرجوع في الهبة، فيه الوجهان المذكوران. فمن أصحابنا من عمّم المنع في هذه الأبواب، وجعل التدبير بمثابة زوال الملك في جميعها. ومنهم من خصص المنع بالتشطير؛ لما ذكرناه من تنزيل التدبير منزلة الزيادة المتصلة فاختص بباب التشطر في الصداق. فهذا حاصل القول في المسألة.
8438- ثم إن جعلنا التدبير مانعاً من التشطير؛ فلو دبرت عبد الصداق، ثم أبطلت التدبير بالرجوع في التدبير صريحاً، فهل يكون هذا بمثابة ما إذا زال ملكها عن عبد الصداق، ثم عاد إليها ملكاً، ثم طلقها الزوج قبل المسيس؟ فعلى وجهين. من أصحابنا من جعل طريان التدبير وزواله بمثابة طريان زوال الملك وعوده قبل الطلاق.
ومنهم من قال: ليس كزوال الملك، وإن جعلناه مانعاً من التشطير إذا كان ثابتاً عند الطلاق، قياساً على الزيادة المتصلة؛ فإنها وإن كانت مانعة في ثبوتها عند الطلاق، فلو طرأت وزالت، وعاد الصداق إلى ما كان عليه حالة العقد، فما تقدم من الطريان والزوال لا أثر له في منع التشطير.
وهذا نجاز المسألة. وسيأتي القول في حقيقة التدبير في كتابه، إن شاء الله تعالى.
8439- ثم تكلم الأصحاب في زوال ملك المرأة عن الصداق وعوده إلى ملكها، وهذا مما تكرر في كتاب التفليس، والرد بالعيب، والضابط للأبواب أن الملك الزائل فالعائد، بمثابة الملك الذي لم يعد، أم بمثابة الملك الذي لم يزُل؟ فيه قولان. ثم ينفصل كل باب على حسب ما يليق به.
والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب طرد الخلاف في الشطر من غير فرق بين جهةٍ في العود وجهةٍ، وإنما تختلف التفاصيل في المبيع إذا خرج ثم عاد ببيع، ثم فرض الاطلاع على العيب، فهذا يضطرب الرأي فيه لإمكان الرد في البيع الجديد، وتحمله في البيع القديم، على ما مضى مستقصًى في موضعه.
أما في الصداق؛ فإذا تحقق الزوال والعود، فلا نظر إلى تفاصيل الجهات، وبالجملة: زوال الملك أظهرُ أثراً في منع التشطر منه في منع الفسوخ، لما مهدناه من ضعف التشطر، والشاهد فيه منع الزيادة المتصلة له وإثبات الخِيَرة لها، ثم حيث جعلنا زوال الملك مؤثراً في المنع، فهو فيه إذا زال زوالاً لازماً، فإن كان الزوال على نعت الجواز، مثل أن يبيع بشرط الخيار-والتفريع على زوال الملك- فإذا انتقض البيع وارتد الصداق إليها؛ ثم طلقت؛ ففي هذا النوع من الزوال وجهان. وطريان الرهن وزواله لا يؤثر.
وإذا كاتبت عبدَ الصداق، ثم عجَّز المكاتبُ نفسَه، وانقلب رقيقاً؛ فهذا أجراه القاضي مجرى زوال الملك على اللزوم، وطرد الخلاف على ما ذكرناه، وهو مرتب عندنا على زوال الملك؛ فإنّ المكاتب مِلْكُ المولى إلى العتاقة، وإن تضمنت الكتابة حيلولة، فالرهن يتضمنه أيضاً، ثم لا يؤثر طريان الرهن.
8440- ثم قال الشافعي: "ولو تزوجها على عبد، فَوُجِد حراً، فعليه قيمته...
إلى آخره". وهذا نص من الشافعي على الرجوع إلى القيمة في اقتران الفساد بالصداق، وقد فصلنا هذا في تمهيد القواعد على أحسن الوجوه، فلا حاجة إلى إعادتها.
فصل:
قال: "إذا شاهد الزوجُ الوليَّ والمرأةَ أن المهر كذا... إلى آخره".
8441- صورة المسألة: إذا تواطآ على مقدار من المهر سراً، واتفقا على أن يُظهرا أكثر، فإذا جرى العقد علانية بالمبلغ الكثير بعد تقدم التواطؤ، قال المزني: اختلف قوله في ذلك. فقال في موضعٍ: السرّ، وقال في موضع العلانية. ثم قال: هذا عندي أولى؛ لأنه إنما ينظر إلى العقود، وما قبلها وعدٌ، هذا نقل المزني واختياره.
وقد اختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأن الاعتبار بمهر العلانية، وما جرى من التواطؤ في السرّ لا حكم له، فهو وعدٌ كما قاله المزني، والمعوّل على ما جرى العقد به لا غير، وهؤلاء يحملون نص الشافعي على فرض إجراء عقد في السر بالمبلغ الذي وقع التراضي عليه، ويشهد لذلك قوله " إذا شاهد الزوج الولي " فذكر الولي يشعر بجريان العقد، وهذا وإن كان قياساً، فهو مخالف للنص.
ومن أصحابنا من أجرى القولين، كما نقله المزني- ثم هؤلاء اختلفوا على طريقين، فمنهم من قال: القولان مفروضان فيه إذا قالا: المهر ألف، وقد تواضعنا بيننا على أن نجعل ذكر الألفين علانيةً عبارة عن الألف الذي وقع التراضي به، فإذا جرى ذلك كذلك، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الاعتبار بمهر السرّ؛ فإنهما جعلا الألفين عبارة عن الألف، واللغات اصطلاحات، وليس يبعد عن القياس تحريفها؛ فإنها لا معنى لأعيانها، وإنما المقصود معانيها، وما يقع التفاهم به فيها.
والقول الثاني- أن الواجب مهر العلانية؛ فإنهما أجريا لفظاً صريحاً في العقد، والصرائح لا تحال ولا تُزال عن حقائقها بما يفرض من تواطؤ وتواضع. وهؤلاء يقولون: لو وقع التراضي سراً على خلاف هذا الوجه، وقالا المهر مهر السر، ولم يتعرضا لتعيين اللغة، كما نصصنا عليه؛ فالذي تقدم وعد، والتعويل على المذكور في العقد، كما ذكره المزني.
ومن أصحابنا من طرد القولين، وإن لم يجر تعرض لتغيير اللغة بطريق المواضعة والاصطلاح، وذلك أنه وإن لم يقع لتغيير اللغة تعرض، فالمراد آيلٌ إلى ذلك.
ثم بنى الأئمة على هذه القاعدة جملةَ الأحكام المتلقاة من الألفاظ، فإذا قال الزوج لزجته: إذا دخلت أنت طالق ثلاثاً، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي أو تقعدي، أو غرضي بالثلاث الواحدة، فظاهر المذهب: أن ذلك لا يقبل منه.
وفي هذه المسألة الوجه البعيد الذي ذكرناه في مهر السر والعلانية، وسنبسط القول في هذا في مسائل الطلاق، عند اعتنائي بذكر الصرائح والكنايات، والأمور الظاهرة والباطنة ومسائل التدبير.
فصل:
قال: "وإن عقد عليها النكاح بعشرين يوم الخميس... إلى آخره".
8442- إذا ادعت المرأة أنه نكحها يوم الخميس بعشرين، ويوم الجمعة بثلاثين، وطلبت المهرين؛ فدعواها مسموعة. فإن ثبت العقدان بإقراره وبالبينة، أو نكل عن اليمين، فرُدّت اليمين عليها، فحلفت، ثبت المهران.
فإن ادعى الزوج بعد ثبوت النكاحين أنه لم يصب في النكاح الأول، فالقول في هذا قوله مع يمينه بناءً على الأصول التي مهدناها؛ إذ قلنا: إذا اجتمع النفي والإثبات في تداعي الزوجين في الإصابة، فالقول قول النافي إلا في المسائل التي استثناها.
ثم ما ذكره الأصحاب أن الزوج لو لم يتعرض لنفي الإصابة في النكاح الأول، فللمرأة طلب المهرين على الكمال، ولا حاجة بها إلى إثبات المسيس في النكاح الأول، وإن كان المهر لا يتقرر إلا به، ونفس النكاح الثاني يدل على ارتفاع النكاح الأول، فكأن النكاح الأول ثبت وارتفع، ولم يثبت فيه المسيس، وطلب جميع المهر من غير مسيس على استمرار النكاح ممكن، فأما إذا ارتفع النكاح، فلا يمكنها طلب المهر على قياس استمرار النكاح، والأصل عدم المسيس، ولكن يعارض هذا أن المهر ثبت بالنكاح على الكمال، فعلى من يدعي سقوط شطر منه أن يتعرض له، ولكن يتطرق إلى هذا أن الزوج لو ادعى نفي الإصابة صُدِّق مع يمين، ولم يطالَب بأمر آخر.
فليتأمل الناظر هذا، وليفهم لطفَ مأخذه، فالأصل ثبوت المهر، وهذا يستمر في سكوت من عليه المهر.
فإن ادعى عدمَ المسيس صُدِّق مع يمينه، وإن لم يدّع طولب بتمام المهر، بناء على ثبوته. فإذاً على الزوج إثبات مقتضى التشطر بيمينه.
وحجج الخصومات منقسمة، وهذا كما أن المودَع مطالَب بالوديعة، محبوس إذا سكت، فإن ادعى تلفاً أو رداً، صُدّق.
ولو قال الزوج: كان النكاح الثاني تجديداً للإشهاد ولم يكن عقداً جديداً، فلا ينفعه هذا القول، بل إذا قال ذلك، استغنت المرأة عن إقامة البينة، وكان ما صدر منه إقراراً بالعقدين: أما الأول فقد اعترف به، وأما الثاني فقد اعترف بصورته، وادعى فيه الإعادة، وهذا يُشبه إذا ادعى رجل على رجل عيناً، وقال المدعى عليه للمدعي: بعها مني، فالاستباعة تتضمن إقراراً للمدعي بالملك، وليس للمدعى عليه أن يقول: طلبت منه صورة البيع ولم أعترف بصحة بيعه، فإنَّ طلبَ البيع محمول على البيع الصحيح، وكذلك كل من اعترف بعقد، فاعترافه المطلق محمول على الاعتراف بالعقد الصحيح.
فصل:
قال: "ولو أصدق أربع نسوة ألفاً... إلى آخره".
اختلفت نصوص الشافعي في مسائل متناظرة، ونحن ننقل أجوبته فيها، ثم نذكر طرق الأصحاب.
قال: إذا نكح نسوة في عقدة واحدة وأصدقهن مالاً واحداً سمّاه؛ فلا شك في صحة النكاح، وفي صحة الصداق قولان نص عليهما.
ونص أيضاً على مثل هذين القولين إذا خالع امرأته، أو نسوة بعوض واحد، فالخلع واقع، والبينونة حاصلة، وفي فساد العوض قولان.
ولو ملك أشخاصٌ عبيداً، فملك كل واحد عبداً أو أكثر، فباعوا عبيدهم بمال يقع التراضي عليه من رجل، فقد نص الشافعي على فساد البيع، وقطع قولَه به.
ولو كاتب عبيداً على عوض واحد نجَّمه عليهم، فقد نص على صحة الكتابة، وقطع قولَه بها.
فاختلف أصحابنا على طرق؛ فمنهم من ضرب بعض هذه النصوص ببعض، وجعل في المسائل كلِّها قولين:
أحدهما: أن العقد باطل لجهالة العوض؛ فإن كل واحد ليس يدري ما ثبت له بالعقد، ولكل واحد حكمٌ في نفسه، وانضمام غيره إليه لا يغيّر من أمره شيئاً، فلا أثر لكون جملة المسمى معلومة إذا كان كل واحد منهم جاهلاً بما يطالب به، وهذا بمثابة ما لو قال الرجل: "بعتك داري هذه بما باع به فلان عبده"، فالبيع باطل، وإن كان الوصول إلى ما باع به فلان عبده ممكناً، وما نحن فيه أولى بالبطلان؛ فإن درك ثمن ذلك العبد ممكن على يقين، وسبيل درك العوض في حق كل واحد بالتقويم والفضِّ، وهذا مظنون لا يتوصل إلى مسلك التعيين فيه. وما يجري في النكاح والخلع والبيع والكتابة على نسق واحد؛ فإن هذه العقود-وإن اختلفت أحكامها- فهي متساوية في اشتراط الإعلام في عوضها.
والقول الثاني- أن العقود بجملتها صحيحة؛ فإن المقدار المسمى معلوم وقد قوبل بمعلومات، فاشتملت الصفقة على مقابلة معلوم بمعلوم، ثم الاجتهاد وراء ذلك في القسمة، والنص يخصص القول الأول. هذه طريقة.
8443- ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وطرد القولين في بدل الخلع والصداق، وقطع بالفساد في البيع، وبالصحة في الكتابة، وهؤلاء يحتاجون إلى فرقين:
أحدهما: بين البيع والخلع وبين الكتابة، أما الفرق بين البيع وغيره؛ فهو أن العوض ركن في البيع، وحكم فساد الركن فساد العقد، ثم موجب فساد البيع إلغاؤه، والبدل ليس ركناً في الخلع والنكاح، وفقه ذلك أنا لا نفسد النكاح والخلع بفساد العوض، وإذا لم نفسدهما، فلابد من إثبات عوض، وذلك العوض هو مهر المثل الذي نريد توزيع المسمى عليه، وإذا كنا لا نجد بداً لإثبات مهر المثل، فلا يمتنع توزيع المسمى عليه، ومثل هذا لا يتحقق في البيع.
وأما الكتابة، فهي أقل احتمالاً لأمثال هذه الأمور؛ فإن عوضها أُجمل على صيغة تَفْسُد عليها الأعواض في العقود؛ فإنها مقابلة الملك بالملك، ثم كان سبب احتماله تشوف الشرع إلى تحصيل العتاقة، فإذا أمكننا أن نقدر وجهاً في الصحة، لم يَلِقْ بوضع الكتابة أن تفسُد لتخيير السيد. ومن فهم ما ذكرناه، لم يفسد عليه الكلام العام في اشتراط الإعلام في أعواض هذه العقود.
ومن أصحابنا من ألحق البيع بالنكاح والخلع، وخصص الكتابة بقطع القول فيها بالصحة، والسبيل ما قدمناه، ولا يمتنع عكس هذه الطريقة على من يحاول؛ فإن الكتابة مضمونها العتق، وهو على النفوذ كالطلاق، والبيع يختص من بين هذه العقود بمزايا وتأكيدات في رعاية صفات الأعواض.
فأما القول في الصداق، فإن أفسدناه، رجعنا إلى مهور أمثال النسوة، فإن كل فساد يرجع إلى الجهالة فالرجوع إلى مهر المثل، وهذا مقطوع به.
8444- ووراء ما ذكرناه غائلة؛ فإنا على قول القيمة وضمان اليد نقدر للخمر قيمة، ونقدر الخمر عصيراً، ومساق هذا يقتضي ألا نصير إلى مهر المثل إلا في المجهول الذي لا يمكن تقويمه. وإذا كان النص على مهر المثل ممكناً، فليس هذا بأبعدَ من تقدير قيمة الحر.
فإن وفّينا حق هذا الأصل، قلنا: إذا رأينا الرجوع إلى القيمة في قاعدة الصداق عند طريان التلف أو اقتران الفساد، فالوجه: تصحيح الصداق. وإن لم نر ذلك، جرى القولان، وهذا تكلّف منا، والأصحاب طردوا القولين على القولين.
وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قول على قول.
وإن حكمنا بصحة الصداق، فلا وجه إلا فضّ المسمّى على أقدار مهور أمثال النسوة، فإن استوين في مهور الأمثال استوت حصصهن، وإن تفاوتن في المهور، تفاوتت الحصص.
وفي طريقة القاضي قول غريب أن المسمى مفضوضٌ على رؤوسهن من غير نظر إلى تفاوت المهور، وهذا وهم غير معدود من المذهب، لا يُحتمل إلا من رجل له قدرٌ وقدمُ صدق في المذهب. وما ذكرناه من التفريع في النكاح يجري مثله في بدل الخلع، حرفاً بحرف.
8445- وأما البيع-إن أفسدناه- لم يخف حكم فساده، والسبب فيه جهالة العوض، كما قررناه في التوجيه، ثم نقول: لو كان بين أربعة أشخاص أربعة أعبد، لكل واحد منهم ربع الجميع، فإذا باعوا الأعبد من شخص بثمن واحد، صح بلا خلاف؛ فإن لكل واحد ربع الثمن، ولا جهالة، وإنما الحكم بالفساد، أو ترديد القول حيث ينفرد كل واحد بعبد أو عبيد، بحيث تمس الحاجة إلى فضّ المسمى على أقدار القيم.
ومما نفرعه أن الرجل لو قال: اشتريت عبدك بما يخص العبد من الألف لو وزع عليه وعلى عبد زيد، ولم يجر عقد مع زيد؛ فالبيع فاسد على هذا الوجه، وإن كان لو فرض عقد مشتمل على عبديهما بمقدار من المسمى، لخرجت المسألة على قولين؛ والسبب فيه أن معتمد الصحة النظر إلى صيغة الصفقة المشتملة على معلومين من الجانبين على الجملة، مع رد الجهالة إلى القسمة.
ومما يتفرع على البيع أيضاً أنا إذا صححناه، فلا وجه إلا فَضُّ المسمى على قيم العبيد، وذلك القول البعيد الذي حكيناه في النكاح والخلع وهو الفض على الرؤوس لا يتأتى في العبيد؛ فإنهم أموال قوبلوا بأموال في عقد يقصد منه المالية، وحقائق المالية لا تجري في الأبضاع، وهذا تكلفٌ منا؛ فإن ذلك القولَ فاسدٌ، حيث ذكروا ما للعبد في الكتابة، فلابد من فض العوض عليهم بما ذكرناه في البيوع، نص الشافعي عليه في الكتابة، وأجمع عليه الأصحاب، وهذا نجاز الفصل.
فصل:
قال: "ولو أصدق عن ابنه ودفع الصداق من ماله... إلى آخره".
8446- قد ذكرنا في كتاب النكاح صيغة قبول النكاح للأطفال، وصيغة التزويج منهم، وغرضنا من عقد هذا الفصل أمور تتعلق بالمهر.
منها: أن الأب لو أصدق امرأة ابنه الطفل شيئاً من أعيان ملك نفسه عند قبول النكاح، فهذا جائز، والعين المذكورة تثبت صداقاً. والتقدير فيها أن يفرض دخولها تحت ملك الطفل، ثم ملك زوجته يترتب على ملكه، فتلحق العين بأموال الطفل، ويجب الإصداق من ملك الطفل، وهذا متفق عليه.
ثم إذا بلغ الغلام، وطلّق زوجته قبل الدخول، والعين باقية في يدها؛ تشطّرت، ورجع نصفها إلى الزوج-وهو الابن- فإنا قدّرنا دخول العين في ملكه، وأوضحنا ترتّب ملك المرأة على ملكه، فيرجع الشطر إلى الجهة التي منها الخروج.
ثم الأب إن قال: قصدت هبةً، فالأمر منزّل على قصده، وإن قال: قصدت إقراضاً، فالظاهر عندنا أن قصده متبع؛ لاحتمال الأمر. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مطلق إصداقه يتضمن الهبة لا محالة، وصرحوا أنه إذا قال: لم أنو شيئاً، كان محمولاً على الهبة، ثم إذا حملناه على الهبة، ثم فُرض رجوع شطر تلك العين إلى الابن، فهل يملك الأب الرجوع فيما رجع إلى الابن؟ فعلى الخلاف المعروف في أن ملك المتهب إذا زال وعاد، فهل يثبت للأب حق الرجوع فيه؟
ولو ارتدت المرأة، أو جرت حالةٌ غيرُ الردة، مقتضاها رجوع جميع الصداق إلى الزوج، فالجميع يرجع إلى الابن رجوعَ النصف عند فرض الطلاق قبل الدخول، ثم القول في رجوع الأب، على ما ذُكر.
8447- وذكر الأصحاب مسألة عدّوها من اللغز والمغالطة، فنذكرها على صورتها، فقالوا: إذا قبل الأب النكاح لابنه الصغير، وأصدقها أمّ الصغير، فكانت في ملكه، ثم بلغ الغلام، وطلقها، فإلى من تعود الأم أو بعضها؟ وكيف الطريق بهذا اللغز؟ لأن الأم لو دخلت في ملك الابن، لعَتَقَتْ، فإذا عتقت، لم يصح الإصداق، وإذا لم يصح الإصداق، لم يحصل العتق، فيلتحق هذا بالمسائل الدائرة. فهذا ما ذكره الأئمة.
وينشأ من هذا سؤال، وهو: أن الأب لو قبل لابنه الصغير نكاح امرأة مهرُ مثلها مائة، فأصدقها من خالص ماله ألفاً، فكيف يكون الرأي؟ وهل يكون هذا كما لو أصدقها من مال الطفل ألفاً، مع العلم بأنه لو فعل ذلك من مال الطفل، لكان متبرعاً من ماله، والتبرع من مال الطفل مردود، وهذه المسألة في نهاية الحسن.
وأول ما يجب قطعه أن يظن ظان أن الملك يثبت للطفل، ويبطل الإصداق؛ فإن سبيل ثبوت الملك له الإصداق، وإذا كان بقصد الإصداق، كيف يصح التمليك؟ فوجه الكلام أن يقال: يحتمل أن يصح الإصداق: فإن كان مع تقرير ملك الطفل، فإن هذا تبرع حصل بتبرع الأب بمال نفسه، ولم يثبت للطفل ملك متأثل حتى يفرض منع التبرع فيه.
ويجوز أن يقال: يفسد الصداق رأساً؛ لأن في تصحيحه تثبيتٌ لملك الطفل مع التبرع به. وما وجدناه منصوصاً للأصحاب من منع إصداق الأم يشهد لإفساد هذا الإصداق، فإن انقدح لفقيهٍ نظرٌ في الفرق، فلا حرج عليه، ولا يَطْمَعَن في تخريج في العتق؛ فلا وجه فيه غير ما ذكره الأصحاب.
فإن قيل: قد حكيتم عن أبي إسحاق أنه قال: من يشتري من يعتِق عليه، حصل الملك والعتق معاً، فقياسه أن يحصل ملك الطفل في الصداق وملك المرأة معاً، ثم حصول ملكها يمنع حصول العتق، فهل يخرّج على هذا جواز إصداق الأم؟ قلنا ليس ما قاله أبو إسحاق مما يحل التفريع عليه، سيما في هذه المضائق، وحق كل ناظر في مضيق أن يقطع فكره عن الأصول البعيدة.
فهذا منتهى ما ذكرناه في ذلك.
8448- ومما يتصل بهذا: أن الرجل إذا نكح امرأة و أصدقها ألفاً، وجاء أجنبي وأدّى الألف من غير رضا الزوج، وطلقها قبل المسيس، فحكم الطلاق تشطير الصداق، ويبعد كل البعد أن نقدّر للزوج ملكاً فيما أدّاه الأجنبي؛ فإنه لا يملك الأجنبيُّ تمليكَ الزوج شيئا قهراً، وهو ما يليه، أما التشطير، فلا شك فيه، وحكى شيخي وجهين فيمن ينقلب الشطر إليه، أحد الوجهين: أنه يرجع إلى الأجنبي؛ فإنه من ملكه خرج، ولا وجه عندنا غيره، وإن استبعد مستبعد رجوع نصف الصداق إلى غير الزوج، فسببه أداء الصداق من غير الزوج.
والوجه الثاني- أنه يرجع إلى الزوج، وهذا القائل يضطر إلى أن يقول: يدخل في ملك الزوج تقديراً أولاً، وقد يتفق مثل هذا.
وقد ذكرنا أن العبد إذا خالع زوجته على مال، فالعوض يدخل في ملك السيد، ولم يجر الخلع بإذنه، ولم يخرج البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع لمن يخرج البضع عن حقه، ومن الأصول الخفية أن محض القياس قد يضيق، فيدِق النظر، وهو يمشي مشي المُقَيَّد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكم، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه من غير قياس، إذا امتنع تعطيل الحكم، وهذا تكلف، وليس العبد كالأجنبي المتبرع، فإن ما يكتسبه العبد إنما يكتسبه للسيد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أصدق الأب زوجة ابنه من مال نفسه.
8449- فأما إذا أصدقها من مال الابن، فإن كان قدر مهر مثل المرأة. أو أقل؛ صح النكاح، وثبتت التسمية، وإن كان أكثر من مهر المثل؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن النكاح لا ينعقد.
والثاني: أنه ينعقد، ويُرد إلى مهر المثل.
وأصل هذين القولين أن فساد المهر وإن كان في قاعدة المذهب لا يؤدي إلى إفساد النكاح- فالمهر ثبت في الصورة التي ذكرناها في حكم الشرط، وكأن المرأة لم ترض بالنكاح إلا به، فلا ينبغي أن يؤخذ هذا من فساد المهر مطلقاً؛ إذ لو قلنا: يلزمها النكاح بمهر المثل، لكان هذا تجنّياً ظاهراً واحتكاماً عليها وتغييراً لموجب إذنها، وليس كما لو كان الصداق خمراً؛ فإنه لا حكم لرضاها بالخمر، وطلبها أكثر من مهر المثل يسوغ في الشرع؛ فليفهم الناظر هذه الدقيقة، فإنا رأينا المتعمقين يرون قول فساد النكاح قولاً فاسداً في المذهب، لا يرون له اتجاهاً إلا على قول بعيد في أن فساد المهر يؤدي إلى فساد النكاح، وليس الأمر كذلك؛ فإن الشافعي في مساق نصوصه على أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق، ينص على هذين القولين.
ولو زوّج ابنته بأقل من مهر المثل، ففي انعقاد النكاح قولان:
أحدهما: لا ينعقد.
والثاني: ينعقد بمهر المثل، وتوجيه القول في الإفساد مأخوذ مما ذكرناه، وهو أن الرجل لم يرض بأن يُلزِمَ النكاح بأكثر مما ذُكر، ْ وقد سبق تقرير هذا.
وهذا الذي نبهنا عليه من شرائف الكلام، ولست أذكر أمثال هذا تصلّفاً ولكني أقصد أن يكون للمنتهي إليه فضل تأمل.
8450- ثم إذا أصدق الرجل امرأة ابنه لا من مال نفسه، فلا يخلو، إما أن يصدقها من عين مال الطفل، وإما أن يصدقها ديناً، فإن كان عيناً مَلَكتها والكلام في كونه على قدر مهر المثل أو أكثر منه، وقد سبق ذلك.
وإن ذكر في قبول النكاح لطفله دَيناً مطلقا، فالمنصوص عليه في الجديد: أن المهر لا يثبت في ذمة الأب، والمال على الابن، نعم، إن كان للابن مال، فالابن مطالب بتأديته من ماله. وقال في القديم: يكون الأب ضامناً للمهر شرعاً، وقد ذكرت القولين وتوجيهَهما.
وكذلك لو أذن المولى لعبده في النكاح، فالقول الجديد: أن ذمة السيد خلية عن المهر، والمهر والنفقة يتعلقان بكسب العبد، وقال في القديم: يصير السيد ضامناً، وذمة العبد مشغولة أيضاً، وهو في رتبة الأصيل والسيد في مقام الكفيل.
وإذا أذن لعبده في التمتع بالعمرة إلى الحج، فالقول الجديد- أن العبد يصوم لا غير، وليس على السيد بذلُ مال.
والقول الثاني- أن السيد يُريق دمَ المتعةِ عن عبده.
فإن قلنا: ذمة الأب عريّة عن المال، فإن كان للابن مال، فالمرأة تطالب الأب المتصرف بأداء المهر من مال الابن، ولو صرّح الأب بضمان المهر شرطاً-والتفريع على الجديد- فيصير حينئذ ضامناً، والمرأة بالخيار، فإن شاءت طالبت الابن إذا بلغ، أو طالبت الأب بالأداء من ماله، وإن شاءت طالبت الضامن، ويظهر أثر هذا مُتّضحاً فيه إذا لم يكن للابن مال ثم الأب إذا ضمن-حيث انتهى التفريع إليه- فإن غرم، فهل يرجع على الابن؟ قد ذكرنا في كتاب الضمان أن من ضمن بالإذن، وشرط الرجوع وغرم كذلك؛ فإنه يرجع، فإذا لم يفرض الإذن، ففيه تفصيل.
وحظ هذه المسألة من ذلك الأصل الذي أشرنا إليه- أن الأب لا يحتاج إلى تصريحٍ بشرطٍ، حتى يرجع، ولكن يكفي قصده، فنضع قصدَه موضع الإذن وشرطِ الرجوع، ثم نطبق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق.
وإذا ضمن وأدى في هذا المنتهى، ثم طلق الزوج؛ فنصف المهر يرجع إليه، ثم الكلام بعد ذلك في أن الأب هل يرجع أم لا؟ فإن ما يصدر من الأب في مثل ذلك يتضمن تمليكاً؛ فإنه يَمْلِكُ تمليكَ الطفل- كما سبق تفصيله، وإذا كان تبرعه من مال نفسه يتضمن تمليكه، فما يؤديه بعد الضمان والالتزام يقتضي ذلك لا محالة، وفائدة ما ذكرناه أن تشطير الصداق إذا رجع-حيث يثبت للأب حق الرجوع- فلا نقول: ينحصر حق الأب فيما رجع، بل يلتحق ما رجع بسائر أملاك الطفل، ثم الأب يتصرف فيه فيما يرجع به تصرفه في سائر أملاكه.
وهذا كله تفريعٌ على القول الجديد في أن التبرع لا يُلزم الأب ضماناً بحكم العقد، ثم صورنا فيه إذا لم يصرح بالضمان أو صرح به.
8451- فأما إذا فرعنا على القديم، وقضينا بأن التبرع يُلزم الأبَ الضمان، قال القاضي: إذا غرم الأب على القول القديم ما ضمّنه الشرع، فلا يجد به مرجعاً على مال الطفل، ويكون هذا كضمان العاقلة دية الخطأ؛ فإنهم إذا تحملوا العقل وأدَّوْا ما حمّلهم الشرع، لم يرجعوا بما بذلوه على القاتل.
ثم قال: فلو شرط الأب، صح النكاح، فإن النكاح لا يفسد بأمثال ذلك، وقيل له: لو ضمن الصداق بشرط براءة الابن، فكيف الوجه؟ فقال: لو ضمن الضامن دَيْناً على شرط براءة الأصيل، فلابن سريج في ذلك وجهان ذكرناهما:
أحدهما: يجوز.
والثاني: لا يجوز. هذا معروف في غير ما نحن فيه.
فإذا فرضنا شرط الضمان على هذا الوجه-والتفريع على القول الجديد، وهو أن الضمان لا يلزم شرعاً- فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن الضمان لا يصح، ويفسد بالشرط، ثم يلتحق هذا بشرط ضمان فاسدٍ في العقد، وقد اختلف القول في أن شرط الضمان الفاسد والرهن الفاسد في العقد، هل يتضمن فساد العقد؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الرهون، هذا وجهٌ.
وإن قلنا يصح الضمان عن دين مستقر بشرط براءة الأصيل، فشرْطُ هذا في صلب العقد يجب أن يكون فاسداً؛ فإن العقد يستدعي ثبوت العوض في ذمة العاقد، والخلاف الذي ذكرناه عن ابن سريج في ضمانٍ يرد على دين مستقر، لا يبعد سقوطه.
وإذا تبين أن الضمان لا يتضمن إبراء الذمة إذا وقع شرطاً في العقد، فالشرط إذاً فاسد، وإذا فسد الشرط، فهل يفسد الضمان؟ فيه وجهان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب الضمان، هذا كله إذا فرعنا على القول الجديد-وهو أن الشرع لا يُلزم ذمةَ الأب ضماناً-.
فأما إذا فرعنا على أن الشرع يُلزم ذمة الأب الضمان، فَذِكْرُه الضمان لا معنى له، وهو نطق منه لموجب العقد، فإن ذكر شرط البراءة- أعني براءة الابن، فهذا هو الشرط، وهو فاسد، فإذا اقترن بالصداق؛ يجوز أن يقال يفسد الصداق به، كما سيأتي تقرير ذلك في بابٍ بعد هذا-إن شاء الله تعالى- ويجوز أن يقال: يفسد الشرط ولا يفسد الصداق.
وفيما ذكرناه حكاية عن القاضي وَقْفةٌ عظيمة؛ فإنه حكم بأن الأب لا يرجع على القول القديم بما يغرمه عن جهة الضمان الشرعي، وهذا مما لا سبيل إلى القول به؛ فإن الشرع أثبت للأب نظراً في طلب غبطة الابن لكمال شفقته، فإذا نظر له واستد نظره، فانتصاب ذلك سبباً لتضمينه وإلزامِه المغارم الثقيلة، محالٌ، ولا شك أن الابن مطالَبٌ بالمهر إذا بلغ، وكذلك هو مطالب بالنفقات وسائر مؤن النكاح، وليس كالقاتل خطأً؛ فإنه لا يطالَب بالعقل مع إمكان مطالبة العاقلة، وبالجملة لا يُشبِّه المغارمَ التي تتعلق بالمعاملات النظرية المنوطة بشفقة الأب بالجنايات وضرب أروشها
على العاقلة إلا غافلٌ عن القولين، وضرب العقل على العاقلة مُعْتَبَرُ الأحكام التي لا تعلل.
8452-وينشأ من هذا المنتهى نظرٌ في فنٍّ، وهو: أن البنت إذا خطبها كفء، غلب على الظن أن تزويجها موافق لأقصى الغبطة المطلوبة، فهل يجب على الأب أن يزوّجها، أو لا يجب عليه، أو يجوز له، أو يُستحبّ؟ هذا محل النظر.
8453- ونحن نرى تقديم أصل على ذلك، فنقول: تصرف الأب في مال الطفل ينقسم، فمنه محتوم، ولا يشك العاقل في رعايته، وهو حفظ ماله وصونه عن الضَّياع، ويتصل بذلك تنميتُه بما يقيمه حتى لا يأكل مؤنُ الحفظ المالَ، وعلى هذا يحتمل قول عائشة (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) فأما التناهي في الاستنماء والنزوحُ في البر والبحر، والتطوّح في النّجود لاستنماء مال الطفل؛ فهذا لا يجب، وضبط هذا القسم ما ينتهي إليه إلى الإجهاد والإكداد، والشغل عن المهمات التي تخص الولي، وبين مأمور فيها بإحسان النظر، وهل يجب ذلك؟ الظاهر أنه يجب فلو سنحت غبطة، كزبون يطلب شيئاً بأكثر من ثمنه، فيجب تحصيل ذلك للطفل، وكذلك إذا كان يُعرض شيء مما يُريد وكان يباع بأقلَّ من ثمنه، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن الأب لو أراد أن يشتريه لنفسه جاز، ولا يلزمه أن يشتريه لطفله.
وأما بيع مال الطفل وهو-مطلوب على غبطة- فمحتوم. هذا نظرنا في المال.
ووراء ذلك مزيد، وهو أن الأب لو تبرم بالتصرف في مال طفله، وأراد دفع الأمر إلى القاضي لينصب فيه قيّماً بأجرٍ، فلست أرى هذا محظوراً على الأب، وكذلك لو نصب هو بنفسه ناظراً، ولو طلب من السلطان أن يُثبت له أجراً على عمله، فالسلطان يرى رأيه، فإن وجد متبرعاً بالعمل، فالأظهر أنه لا يجعل له جعلاً، وليس كما لو طلبت الأم أجرة على الإرضاع ووجد الأب متبرعة به؛ فإنا في قول قد نقول: الأم أولى بالإرضاع إذا اقتصرت على أجر المثل؛ والسبب فيه التفاوت اللائح بين إرضاعها وإرضاع الأجنبية. وإن لم يجد السلطان متبرعاً، فالظاهر أنه لا يُثبت للأب أجراً، ويجوز أن يقال: يثبته؛ إذ للأب أن يستأجر عاملاً في مال الطفل؛ فإذا لم يمتنع منه بَذْلُ الأجر على العمل، لم يمتنع أَخْذُ الأجر على العمل، فهذه أمور معترضة نبهنا عليها.
8454- وتزويج الأب ابنته مع ظهور الغبطة، وغلبة الظن في اتجاهها لا يبعد أن يجب. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي (لا تؤخر أربعاً) وذكر من جملتها " البكر إذا وُجد لها كفء " ولا يبعد أن يرى الأب تأخير التزويج لتعلقه بالجبلة، وكون المقصد الأظهر فيه الإعفاف والإمتاع، ويعارض ذلك أن هذا الكلام لو وفّر عليه حقه، لكان مقتضاه منع التزويج، ووجوب التأخر.
فأما المجنونة إذا تشوفت، فيجب تزويجها إذا كانت بالغةً، لظهور الحاجة، فأما التزويج من الطفل، فأبعد من الوجوب، والأظهر أنه لا يجب لما يلزمه من المؤن، ولا حاجة في الحال، وإذا كان مجنونا؛ فالتزويج منه عند مسيس الحاجة حتمٌ.
هذا منتهى النظر في هذا الفن.
وإن كان القاضي يقول: الأب إذا زوّج من ابنه المجنون-حيث يلزمه التزويج منه- يضمن المهر على القديم، وإذا غرِم، لم يرجع، فهذا خروج عن الضبط، ومصيرٌ إلى إيجاب إعفاف الابن على الأب، والمرجع الذي نفاه القاضي لا يفصل فيه بين اليسر والعسر من الطفل، وإن كان يفصل بين التزويج الواجب وبين التزويج الجائز، ويقول: إنما يفسد المرجع في التزويج الجائز، فهذا إثبات نظرٍ على غرر، والآباء لا يورطون أنفسهم في هذه المغارم بما لا يجب عليهم، والتزام الغرر إنما يليق بمن يطلب حقَّ نفسه، كالذي يؤدب زوجته، أو كالذي ينتسب إلى مجاوزة الحد لا محالة، كالذي يؤدب ولده؛ فإنه إذا أفضى إلى الهلاك، تبيّنّا مجاوزةَ الأب حدّ الأدب، وانتهاءه إلى مبلغ من الضرر لا يجوز الانتهاء إليه. فهذا تمام المراد في ذلك.
ثم ذكر الشافعي في آخر الباب تزوج المحجور المبذّر والإذنَ له، وهذا قد أجريناه مستقصًى في النكاح على أحسن وجه، وأبلغه في البيان.